﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ﴾ [إبراهيم: 22].
لَمَّا ذكَر الله - جلَّ ثناؤُه - محاورة الأتباع المقلِّدين لمتبوعِيهم ورؤسائهم وسادتهم، ذكَر محاورةَ أولئك الضالين جميعًا: سادة ومسودين، وأتباعًا ومتبوعين، وشيوخًا ومقلِّدين لإمامهم الأكبر، ورئيسهم الأوَّل، وهو الشيطان؛ وذلك لاشتراكِ الرؤساء والشياطين في الضلال والإضلال، وأنَّ كلاًّ منهم يشارك الآخَرَ في معنًى واحِد: هو الإجرامُ وكراهية الأنبياء وعداوتهم، وكلٌّ منهم يستمتع بالآخَر، ويعينه على الإجرام ومحادَّة الله ورسوله، والقعود على صِراط الله المستقيم؛ لإضلالِ الناس وصدِّهم عن سبيلِ الله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 112 - 113]، وقال: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان:27 - 31]، فبيْن شياطين الإنس - الذين استكبروا عن آياتِ الله الكونية والعِلمية أن يخضعوا لها، وينقادوا لأحكامها وسُننها، ويستقيموا على طريقِها - وبيْن المستضعفين مِنَ العوام والدهماء أقْوى رابطة، حيث أقاموا لهم أنفسَهم أربابًا وآلهة مِن دون الله، فردُّوهم بالتقليد الأعْمَى إلى أسفل سافِلين، وألزمهم أن يُسلِموا إليهم زمامَ قلوبهم وعقولهم وأعمالهم، وأن يكونوا بيْن أيديهم في الإرادة والاختيار والتفكير كالميِّت بين يدي الغاسل، وأَوْهموهم أنَّ لهم القدرةَ المُطْلقة فيما يتصرَّفون به في قلوبهم وأعمالهم، ودُنياهم وآخِرتهم، فاستسلم أولئك الجماهيرُ لأولئك الدجَّالين استسلامًا لا ينبغي ولا يليق إلا لله ربِّ العالمين، وألْقَوا إليهم السَّلَم، موقنين أنَّهم حقيقةً يفعلون ما يقولون، ويَتَصَرَّفون التصرُّفَ المطلَق في هذا الوجود بما يشاؤون، حتى أكفروهم بكلِّ آياتِ الله ونِعمه، وأخْلَدوا بهم إلى أرْض الهوى والظنون، فأصبحوا كما وصفَهم الله وضرَب لهم المثل؛ ﴿ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 176 - 179]، وكما قال: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 44]، يمرُّون باللَّيْل والنهار على آياتِ الله في أنفسِهم وفي الآفاق، ويُفصِّل الله لهم مِن الآيات الكونيَّة في كلِّ شأن مِن شؤونِهم وهم عنها مُعرِضون غافلون، ويَقرؤون آياتِ الله مُفَصَّلات بيِّنات تُناديهم، وتحاول أن تُوقِظَهم وتناديهم، وتحاول أن تُوقظَهم وتنتشلهم مِن هذه الغفلة، ولكنَّهم كما وصَفَهم الله: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 45 - 47].
وما هذه النجوى إلاَّ ما في قلوبهم مِن العقائد التي نفَثَها فيهم شياطينُهم أنَّكم عوام لا يَنبغي أن تَفهموا القرآن، ولا تتدبَّروه، فقد أُغلِقتْ أبوابه ووُضعتْ عليه أقفال، مفاتيحها بيدِ فلان وفلان، وما لكم مِن هذا القرآن إلا الترنيمُ والأصوات الغنائية، والتوقيعات الموسيقيَّة، أو للموتى تستنزلون به الرحماتِ عليهم، بواسطة أولئك الكهَّان المجرِمين، أو التبرُّك بورقِه وحروفِه وجِلْده، وخُدَّامه الذين قِيل عنهم: إنَّ لكلِّ آية ولكلِّ سورة ولكلِّ حرف وكلمة خادمًا مِن الجنِّ، إذا كررت الآية أو السورة أو الكلمة عددًا حدَّده لهم أولئك المُجرِمون، يحضر هذا الخادمُ بالليل أو النهار، فيكون تحتَ تصرُّفهم يُسخِّرونه فيما يشاء لهم كفرُهم وبغيُهم، أو غير ذلك من الحُجُب والتمائم التي هي صناعةُ اليهود الذين اتَّبعوا ما تتلو الشياطينُ على مُلْك سليمان، وما كفَر سليمان ولكن الشياطين كفروا، وكَفَر أولئك اليهود وخَلَفُهم ممَّن يتسمَّى باسم الإسلام، ويتَّخذ آياتِ القرآن الحكيم طلاسمَ وتعزيمات سِحريَّة؛ استهزاءً بآياتِ الله التي أنْزَلها هدًى للناس، وبيِّنات من الهدى والفرقان.
لهؤلاء الشياطين مِن السادة والرؤساء والشيوخ والكبراء رابطةٌ أشدُّ رابطة، وصلة وثيقة بشياطين الجِنِّ، بما يُوحُون إليهم من أنواع الكفر والضلال والفساد، ويُزخرِفون لهم مِن ألوان الشِّرْك والزَّيْغ والإلْحاد في أسماء الله وصِفاته، وبما يُروِّجون لهم عندَ العامَّة والطَّغَام مِن السِّحر وغرائب الأمور، والشعوذات التي يُسمُّونها كراماتٍ، يتخذون منها أغلالاً وسلاسلَ يُقيِّدون بها نفوسَ العامَّة وقلوبهم، ويشدونها شدًّا وثيقًا في رِكاب أولئك السادة والكبراء والشيوخ، ويَجعلون من هذه الشعوذاتِ والمخاريق السحرية أغشيةً وحُجُبًا على أسماعهم وأبصارهم، وأكنَّةً على قلوبهم، فلا يُفكِّرون ولا يخطُر لهم على بال أن يحاولوا التخلُّصَ مِن هذه السلاسل والأغلال؛ حتى لا يثوبوا أبدًا إلى رُشْدهم، ولا يتوبوا إلى ربِّهم، ولا يَرجعوا إلى دِين الحقِّ الذي ارْتضاه الله العليم الحكيم الخبير، فأوْحاه وأنْزَل به الرُّوحَ الأمين على قلْب صفوته مِن خِلْقه وخِيرَة رسله، خاتمِ المرسَلين وإمام الهُداة المهتدين، محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله أجمعين.
فاسمع إلى وعيدِهم وتهديدهم؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ﴾ [مريم: 83 - 84]؛ ذلك لأنَّ بينهم وبين أولئك الشياطين أقوى المدَّة، وآكد الولاية؛ ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 27 – 30].
وهل هناك فاحشةٌ أعظمُ من اتِّخاذ الرِّجَام والأحجار، والنحاس والحديد، الذي أُقيم أوثانًا وأنصابًا على قبور أوليائهم، يعبدونها بأنواعِ العبادات، ويُعفِّرون عندها الوجوه، ويتمسَّحون بها ويَتَّخذونها آلهةً مِن دون الله، يُحبُّونها ويَخافونها ويَرجونها، كما يخاف المؤمنُ ويرجو ربَّه وحْدَه؟!
هل هناك فاحشةٌ أغلظ مِن هذه الفاحِشة، وأشنع وأقبح عندَ ربِّ العالمين، وعند ذوي العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة على سُنَّة الله وصِراطه المستقيم؟!
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21]؛ أي: وربِّكَ إنَّهم ليحرصون على تقليدِ آبائهم وشيوخهم، ولو كانوا مُتَّبعين الشيطان الذي يدعو حزبَه ليكونوا مِن أصحاب السعير، وعياذًا بالله.
واسمعْ إلى قوْل الله في موالاةِ هؤلاء الشياطين من الجن والإنس، واستمتاعهم ببعض: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 128 -130].
وفي وحي الشياطين لأوليائهم لترويجِ الشِّرْك بالباطل، يقول: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 121].
ويقول الله في بيان حقيقةِ الشرك بدعاء الموتَى والتبرُّك برِجامهم وما نُصِب على قبورهم بوحي الشيطان، وأنَّه في الواقِع ليس دعاءً وعبادةً للأنبياء، ولا للأولياء والصالحين، الذين يتبرَّؤون يوم القيامة مِن عبادتهم، ويقولون لهم: ﴿ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [يونس: 29]، وإنَّما هو في الحقيقة عبادةٌ ودعاء للشيطان.
فيما قصَّ الله علينا من محاجَّة إبراهيم لأبيه ودعوته إلى إخلاصِ العبادة لله: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 42 - 45]، ويقول الله في هذا المعنى مِن أنَّ الشرك إنَّما هو عبادة الشيطان: ﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 117 - 119]، ويقول الله أيضًا: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98 -100] ويقول أيضًا: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].
إذا عرفتَ هذا وعرفتَ أنَّ الفسادَ كلَّه والشرك، والفسوق والعصيان، والتمرُّد على الله، والتكذيب بآياته العلمية والكفر بنعمه، والاستكبار عن آياته وسُننه الكونية - إنَّما كل ذلك مِن وحي الشيطان إلى أوليائه مِن شياطين الإنس، وإمداده إيَّاهم بأنواع المكْر والحِيلة والمجادَلة بالباطل؛ ليُروِّجوا ذلك ويشيعوه في الناس، ويُحاربوا به اللهَ وكُتبَه ورُسلَه، فاعلم أنَّ أصل ذلك وأساسه الذي قام عليه مِن أوَّل الأمر، هو بعينه الأساسُ والأصْل الذي يقوم عليه في كلِّ وقت وفى كلِّ بيئة وبلد، وإنْ كان في زمننا قد زادتْ شجرتُه الخبيثة جُذورًا وفروعًا وثمرات، ألا وهو تشبيهُ الخَلْق بالخالق، وانتزاع بعضِ صِفات الرُّبوبيَّة، وخلعها ظلمًا وبغيًا على أولئك الخلْق، الذين يتَّخذهم الشيطانُ أولياءَه مِن المعظَّمين بالباطل، أو من الصُّوَر الوهميَّة الخياليَّة، التي يُقيمها الشيطانُ بوحيه في خرائبِ أدْمِغة الذين لا يَعْقِلون، لمن كانوا معظَّمين في حياتهم بحقٍّ مِن أنبياء الله أو عبادِه الصالحين، فيُقيم مِن أوليائه أعداءً لهم في حياتهم، يوحي إليهم ويمدُّهم بأنواع الكيد والكفر، محاولين قتلَهم، وقَطْع غيْث الرحمة والهُدى الذي ينزله الله عليهم لإنقاذِ الإنسانيَّة مِن إفسادهم، ولينفخ الله في الناس رُوحَ الحياة الكريمة التي أفقدَهم إيَّاها أعداءُ الإنسانية مِن أولئك الشياطين، فإذا لم يستطيعوا قتْلَهم بما حَفِظهم الله به وعَصَمهم حتى يُبلِّغوا رسالاتِه، ويُقيموا على الصِّراطِ المستقيم أعلامَه ومنارَه، عمد الشيطانُ فأوحى إلى أوليائه أن يَكيدوا لرسالاتِهم، وأن يَعْمَلوا على إطفاء نورِ الله، وطمْسِ منارِ الصراط وأعلام الهُدى، ولا يكون أقرب ولا أيْسَر على الشيطان مِن أن يأخذ طريقَه على هؤلاء الأنبياء، راكبًا مَطيَّة ما لهم في النُّفوس مِن الإجلال والمحبَّة، فيوحي إلى أوليائه أن يَغْلُوا في شخْصِ الرسول، ويُبالغوا في هذا الغلو - وهم واجِدون مِن قلوب العامَّة لذلك البَهْرَج والسُّم الزعاف في الدسم إصغاءً وقَبولاً - فما يزالون بهم حتَّى يخرجوهم عن دائرةِ البشريَّة، إلى دائرةٍ أخرى وهميَّة خياليَّة، لا حقيقةَ لها ولا وجودَ في الواقِع ونفْس الأمر، هي بُنوَّة الله في صُوَرٍ شتَّى منها: أنَّهم النور الذي فاض مِن الله أولاً، فخُلِقَتْ منه الأكوان، فإذا بلغوا بهم إلى ذلك، فقدْ نالوا منهم مآربَهم، ووصلوا إلى غايتهم التي لها يَعْملون، وإليها يسعون جاهدين، والتي قد تَخصَّص الشيطان فيها منذ القِدم فأَتْقَنها بأفانينه، مِن الأماني الكاذبة، والمخادعة والتغرير، ومَكْر السيئ.
تلك الغاية هي تكذيبُ الله ورُسله في أنَّ هؤلاء بشرٌ مثل كلِّ البشَر، تفضَّل اللهُ عليهم فاصْطفاهم لرِسالتِه، ثم يَخرجون مِنْ هذا التكذيب - الذي يلزم منه ولا بدَّ الكفر بالله وكُتبه ورسله - إلى اتِّخاذهم آلهةً مِن دون الله، ويَخلعون عليهم كذبًا وبُهتانًا مِن صِفات الربوبيَّة ما سيأتيك بيانُه - إنْ شاء الله.
وقد تَمَّ للشيطان وحِزْبه كلُّ ما أرادوا ممَّا نصبوا أنفسهم له منذ الخَلْق الأول مِن تغيير خَلْق الله، والفسوق عن سُنن الله وآياته وشرائعِه، والقعود على صراطِه المستقيم، وعاد أكثرُ الناس كافرًا غيرَ شاكِر، ظالمًا غيرَ عادل، غاويًا غيرَ راشد، جاهلاً عدوًّا للعلم، ضالاًّ عدوًّا للهُدى، سَفيهًا عدوًّا للحِكمة.
وعندئذٍ يكون أيْسَر اليُسْرِ على الشيطان وحِزبه أن يأخذوا بأولئك الغاوين الجاهلين السفهاء إلى كلِّ مَهْلَكة، مُصَدِّقين ما يَعِدُهم به مِن غُرور وأماني كاذِبة، ويَبلُغ مِن سلطانه عليهم بهذا الجهْل والغي والسَّفَه أن يتَّخذَ منهم أعداءً ألِداءَ لرُسل الله وكُتبه، ويَغُرّهم أنهم إنما يَدينون دِينَ الباطل والكفْر والتكذيب لله ولكُتبه ورسله؛ تعظيمًا لأولئك الأنبياء والصالحين بما يتغنَّوْن به صباحًا ومساءً، وسرًّا وجهرًا مِن مثل:
يَا أَشْرَفَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ
سِوَاكَ عِنْدَ حُدُوثِ الحَادِثِ الْعَمَمِ
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا
وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ
وهذا صريحٌ بلفظه العربي في أنَّ الرسول يملك الدنيا والآخِرة، بل هما بعضُ ما جاد به، وأنَّ عِلم اللَّوْح المحفوظ مِن بعض عِلمه، وعلمُه أوسعُ مِن ذلك، وأنَّه - لذلك - الملاذُ والملجأُ الأوْحد للشاعِر عندَ حدوث حوادثِ الآخرة إذا زُلزلتِ الساعة زلزلتَها العظيمة التي يراها الناسُ، حين تَذْهَل كلُّ مرضعة عمَّا أرضعتْ، وتضع كلُّ ذات حمل حملَها، وترى الناس سُكارَى وما هم بسُكارى، ولكنَّ عذاب الله شديد، وكان يَنبغي أن تكونَ الآية مِن سورة الحج: (ولكن عذابَ محمَّد شديد)، وليس أبلغ مِن هذا في تكذيبِ الله ورسوله، ولا أشنعَ في الكفر من هذا!
وإنَّما سُقْنا هذا على سَبيلِ المثال، وإلا ففي أشعارهم ومُؤلَّفات موالدِهم، وكُتُب أورادهم وأحزابهم ما هو أعظمُ مِن هذا، وأعظم بلاءً وكفرًا، وهو رائجٌ في الناس أعظم مِن رواج القرآن والبخاري ومسلم، يحفظونه عن ظهْر قلْب، ويتعبَّدون به أشدَّ مِن تعبُّدِهم بِتلاوةِ وتدبُّر آيات الذِّكر الحكيم.
والله يقول ويُكرِّر القولَ ويؤكِّد: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110]، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34]، ويقول: ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 93].
والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكرِّر ذلك ويؤكِّد.
ففي الصَّحيحَيْن: ((إنَّما أنا بشَرٌ أنسَى كما تنسَوْن، فإذا نسيتُ فذكِّروني))[1]، ((إنَّما أنا بشَرٌ، وإنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجته مِن بعض، وأقضي له على نحو ممَّا أسْمع))[2]، وغير ذلك كثيرٌ جدًّا لا يُحصى.
ويوحي اللهُ إليه أن يُحذِّر المؤمنين مِن كَيْد الشيطان وحِزْبه، وتَلطُّفه في الحيلة للناس باتِّخاذ شخْصه - صلَّى الله عليه وسلَّم - سبيلاً إلى الكفْر به، كما صنعوا به ومَن قبله مِن الأنبياء.
فيقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولكن أمر الله كان قدرًا مقدورًا))، فلم تُغنِ عنهم هذه التحذيراتُ شيئًا، بل استطاع الشيطانُ أن يركبَ هو وحزبه أقفية الناس، ويتَّخذ منهم مطايا للكُفْر بالله وكتابِه ورسولِه مِن هذا الطريق، فيزعم لهم - كما زعَم للمشركين .يتبع