]
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة؟ فمن يهديه من بعد الله؟).
قد جبل الله كل نفس بشرية على طبيعة الحب والإرادة، لتقبل على جلب ما هى بحاجة إليه في أولاها وأخراها . ثم جعل أمامها في كلتا الحياتين طريقين: طريقا إلى اليمين، وطريقا إلى الشمال. فذات اليمين: يمشي سالكها إلى كل غاياتها بطبيعة الحب والإرادة. وذات الشمال: يمشي سالكها كذلك بطبيعة الحب والإرادة غير أن أهل الشمال يسمى حبهم وإرادتهم: هوى وسفها، وأهل اليمين يسمى حبهم وإرادتهم: رشدًا وحكمة.
ذلك: لأن أهل اليمين لا يسيرون في طريقهم بمجرد الحب والإرادة. بل بالحب والإرادة الخاضعين للعلم الصحيح، المستفاد من التفكر في سنن الكون وحقائقه، من وحي الله وهداية رسله. وأهل الشمال: يسيرون في طريقهم بمجرد الحب والإرادة ، لا يقيدونها بعلم من سنن الكون، ولا بعلم من الوحي والرسالة فاهتدى الأولون وأفلحوا وضل الآخرون وخابوا وخسروا.
ولقد فتن الله الإنسان بأن جعل لكل شأن من شئونه، وجبلة من جبلاته طرفين، واحدًا يذهب بها ذات اليمين، وأخر يذهب بها ذات الشمال. ثم سخر له من السنن والآيات في نفسه وفي الآفاق وأنزل له من العلم: ما يميز به الطرف الأيمن، ويحببه إليه، ويهديه لحقيقته، فيمسك به حريصًا عليه، ويذهب به سالكا طريق أهل اليمين، وابتلاه بإبليس يعميه ويغفله عن الطرف الأيمن، ويبغضه إليه، ويزين الطرف الأيسر، ويحببه إليه، حتى يمسك به، ويحرص عليه، فيذهب سالكا طريق أهل الشمال.
وإن الله ليحب أهل اليمين - وكلتا يدي ربنا يمين - فمن ثم تعهد الإنسان في كل أطواره ببعث الرسل إليه تتري، ليبدد بهدى الرسالة ظلمات الجهل التي - في ثناياها - زين إبليس للناس ذات الشمال، فهوى بهم إلى أسوأ العاقبة، وأنزل الكتب ليبقى بعد الرسل سراجًا منيرًا يبدد هذه الظلمات، ويهدي إلى ذات اليمين، وأكثر الناس يغلبهم الهوى والحب المجرد عن العلم، فيعودون إلى ظلمات الجهل، فيزين لهم الشيطان، ويأخذهم معه ذات الشمال، حتى ختم الله رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وختم كتبه بالقرآن، الذي جمع فيه كل عناصر النور والهدى والتقويم لكل ما حدث من الزيغ بوسوسة إبليس وتزيينه، ولكل ما يحدث إلى قيام الساعة. ومن ثم حشد فيه كل عبر الماضين، وخوف من الغفلة عنها، وأكد فيه بأنواع التأكيد أنه الهدى المطلق والمهيمن على كل قول وكتاب وأنه الشفاء من كل أمراض القلوب وعلل النفوس، وأنه حفظه بأنواع الحفظ، يحدث الناس جديدًا، كما أنزله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأمر نبيه - الذي اختاره لحمل الأمانة عنه: أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، لعلهم يتفكرون في آياته فيفهموها ويعرفوا القصد المراد من إنزالها في صفات الرب وحقوقه، وصفات العبد وحقوقه حتى يقيم بذلك ربنا الحجة: أنه لم يدع للناس مجالا ولا عذرًا: أن يعموا عن صراطه المستقيم، ويقعوا بأهوائهم فيما يزين لهم إبليس من طرق المغضوب عليهم والضالين.
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعمله وحاله وقوله ما أمره الله أن يبينه، وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. لا يزيغ عنها إلا هالك. وعرف ذلك أصدق المعرفة أصحابه، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه، ومؤازرته على تبليغ رسالة ربه فاستمسكوا بالقرآن يتلونه حق تلاوته، ويبادرون إلى محابهم وإرادتهم فيحكمونه عليها، فيبعد عنهم الهوى، ويندفعون في تنفيذ شرائعه وأحكامه في الفرد والمجتمع. والحاكم والمحكوم على سواء، قوامين بالقسط، شهداء على أنفسهم، لا تأخذهم في الله لومة لائم. وكانوا بذلك على نور تام من ربهم وكتابه، يلمحون بارقة الفتنة، فيعاجلونها بالعلاج الحاسم، فيرتد الشيطان خاسئًا. انظر إلى عمر رضي الله عنه، وقد جاءه من غلبه الشيطان، فنطق على لسانه بفتنة (الذاريات ذروا) فسأل عمر عن معناها فقد أشكل عليه - زعم - فرأي عمر بنوره التام: أنه ليس معنى (الذاريات) الذي خفي وأشكل عليه. فلقد كان اللسان لا يزال عربيا بالفطرة التي لم تفسد بعد بلكنة الأعاجم، وإنما هو ريح الفتنة يفور في رأسه فضريه بالجريد، وهو يقول: حتى يخرج الشيطان من رأسك، حتى أوجعه، ثم نفاه إلى البصرة، وحذر الناس من مكالمته.
ولكن لم يقعد هذا الشيطان أن يعمل على التخلص من عمر، فأوحى إلى حزبه، فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه، واستطاع الشيطان بعده: أن يخرق بأصابعه في هذا المجتمع - وقد كثر فيه الدخيل - ثقوبا، نفث من خلالها ريح الفتنة، وغفل الناس - لأمر قضاه الله - حتى اشتعلت نارها واستعر أوارها. وكان أمر الله قدرًا مقدورًا. فلعب على أيدي حزبه من الفرس واليهود وأشباههم من أعداء الله ورسله من ذوي الحمية الشيطانية والعصبيات الجاهلية. فكانت فتنة قتل عثمان، ثم فتنة على ومعاوية، وفي أثنائها: كانت فتنة الإعراض عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لما أنزل إليه من ربه، التي لعبها إبليس على يد الخوارج، ثم كانت فتن كقطع الليل المظلم، من أخبثها وأشدها زحزحة للقلوب عن هدى القرآن عقيدة وعملا: فتنة المعتزلة التي أعلنت بتحكيم الهوى - الذي سموه العقل - في نصوص كتاب الله بل وفي الأسماء والصفات، فحرفوها عن موضعها، وأخرجوها عن حقيقتها، وجردوا الله من هذه الأسماء والصفات، وكانت هذه أول بذرة الصوفية الخبيثة، ثم كان من آثارها ودخانها: فتنة القول بخلق القرآن، فقد تهيأ بهذه الفتنة وبما تبعها للشيطان أن يمرح طويلا، ويذهب ويجيء بالقلوب بعيدًا جدًا. وكان للإمام أحمد بن حنبل - غفر الله له - المقام المحمود، والقدم الصادق ، والقلب الراسخ، ولم يكن قصد حزب الشيطان: تنزيه القرآن وصيانته، بل كان قصدهم الأول والأخير: أن تزول القلوب عن الإيمان بأن هذا كلام الله ووحيه الذي أنزله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وفي آثار هذه الفتنة، أو هو من آثارها: الإعراض عن القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلا بما استحدثوا من مؤلفات وآراء ومذاهب. وما زالت الفتن والأهواء تهوى بالمسلمين، في ظلمات هذه الجهالات، حتى آل الأمر بهم أن غرقوا في فتن حيرتهم في جميع شئونهم، حتى جاء العدو الأفرنجي، ووضع بيده عليهم بكل سهولة، في غمرة الحيرة، التي لا تزال تحيط بهم. وهم يحاولون الخلاص مما هم فيه من أسر الفرنجة، ولكن ما هم حريصون عليه من غمرة الحيرة الجاهلية، يجعل محاولتهم أسبابًا جديدة لتثبيت مخالب العدو في أعناقهم. وهم لا يشعرون، أو يشعرون، ويخادعون أنفسهم. وهذه أشد في البلية وأعظم في المصيبة.
وبعد، فإن أنصار السنة ما قامت إلا لإرجاع الناس إلى هدى القرآن ، كلام الله المنزل من عنده، وإلى هدى الرسول الذي حفظه ووعاه أصحابه، وحفظوا به بيانه للقرآن قولا وعملا وحالا، وأدوه كما حفظوه للناس، وجاء من بعدهم أئمة جهابذة اصطفاهم الله واستعملهم في حفظ هذا البيان للناس: أن يضلوا ويزيغوا، إذا ضاع منهم هذا البيان، فقالوا في القرآن بهواهم، وجروا مع الضالين الأولين وراء عدوهم المضل المبين.
نعم قامت أنصار السنة تجدد للناس دينهم من كتاب الله وسنة رسوله، ولن يتحقق ذلك التجديد إلا بأن يؤمن الناس إيمانا صادقًا بأن هذا القرآن كلام الله، وأنه غير مخلوق، لأن الله لم يقل ذلك، ولا قاله رسوله، ولا قاله أحد من أصحابه ولا سبيل له إلى مثل هذا الحكم، وتعلن بإلحاد وزندقة من يقول: إن القرآن مخلوق، وتبرأ منه، ولن يتحقق ذلك التجديد: إلا بأن يؤمن الناس بأن الله أمر رسوله بالبيان، لأنه كان إنسانًا، ولم يكن حجرًا، ولا آلة صماء، وأن الرسول قد أطاع ربه، وبين البيان الشافي، وأن بيانه قد هيأ الله له من أسباب الحفظ ما يبقى به هدى للذين أمنوا به، وأنه لن يتم هذاا التجديد: إلا بأن يؤمن الناس: بأن أعداء الرسول قد كذبوا عليه ولا بد، وأن الشيطان لا بد أن يوحى إلى أوليائه من الإنس بهذا التكذيب يروج به الخرافات والعقائد الشركية، والفسوق والعصيان، ولكن أنصار السنة يؤمنون بالله، وأن لا يمكن أن يأمر رسوله بالبيان، ثم يبين الرسول، ثم يضيع الله على عباده هذا البيان، ويتركهم في عماية الأهواء والفتن، لا يقدرون على التفكر السليم ولا يستطيعون إليه سبيلا. إن أنصار السنة يؤمنون بالله، وبأنه يمتحن عباده ويبتليهم بأنفسهم وبالناس، فهم لذلك يحرصون على إيقاظ قلوبهم، واللجأ الدائم إلى الله وبكل شيء بمنتهى الضراعة والمسكنة - وهو مقلب القلوب - أن يهديهم لما اختلف فيه من الحق بإذنه. فإنه يهدى من يشاء إلى الصراط المستقيم، فليس أنصار السنة أغفالا، يأخذون كل ما نسب إلى رسول الله وليسوا غلاظ الأكباد زنادقة يطرحون كل ما نسب إلى رسول الله، لأن الكذابين قد قالوا عليه ما لم يقل. لكنهم مؤمنون مهتدون بهدى الله في كل سنته الكونية وآياته العلمية، فليس كل من قدم لهم طعامًا أو ثيابًا أو حالا يمتنعون عن أخذه، ولا يقبلون عليه في عماية وغفلة، بل يفحصون ويمحصون.
ومائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يقدمه لهم من غذاء القلوب وسترها: أعز عندهم وأغلى من غذاء الأجسام وسترها. فهم يمحصون الأحاديث ويزنونها بميزان فن الجرح والتعديل الذي وضعه وخدم الحديث به رجال صادقون مخلصون، لم يتركوا شاردة ولا واردة، من رجل ولا قول إلا تناولوه درسًا وبحثًا. فجزاهم الله خير الجزاء. وطهر الله جو أنصار السنة من كل مارق غليظ الكبد متبع لهواه. وزاد الله أنصار السنة علما وهدى بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقام بهم الحجة على الجاهلين الخرافيين، وعلى الضالين المارقين.