.]
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 1 - 7].
هذه السورة هي أمُّ القرآن الكريم، التي جُمِع فيها كل مقاصد القرآن، وأُجمل معانيه في تلك الآيات السَّبْع المثاني، بالأسلوب المعجِز، واللفظ الموجَز، والقول السَّلس الذي لا يحتاج إلى كثيرِ معاناةِ بحْث، ولا يَستدعي عميقَ فَهْم وعويص تفكير، فهي نمُوذج القرآن الذي يرسم أسُسَه وحقائقه في كلِّ نفْس، ويصوِّر معانيه في كلِّ قلب، العلماء والدَّهْماء على اختلاف منازلهم، وتبايُنِ درجاتهم، إذا ما لفَتُوا أفهامهم بعض اللَّفت، ووجَّهوا قلوبهم نوْعَ توجيه، آتتْهُم هذه الفاتحةُ المباركة ذلك النموذجَ القرآني، وتلك الصُّورة الحقَّة لمقاصد الكتاب الحكيم.
ومن ثَمَّ فرَض الله قراءتهَا في كلِّ ركعة من الصَّلوات المتكرِّرة بُكْرة وعشيًّا، وطرفي النهار وزُلَفًا من الليل، يقرؤها خاشعًا قانتًا، في موقف الذُّل والضَّراعة، يناجِي ربَّه بتلك الكلمات القليلات العددِ، العظيمات القدْر، الكثيرات الخيرِ والبرَكات، فيذوق فيها من لذَّة القرآن، ويشهد من أنواره ما يدفعه بقوَّة إلى استجْلاء تفاصيل جمل الخيرات، واقتطاف ثمار فرْع تلك الأصول الناميات المباركات، وكلَّما قرأْتَ فاتحة الكتاب وجَدْتَ من ورائها ذلك الدَّافع يَدفعك إلى قراءة غيرها من بنَاتها مما يفصِّل مواضيعها ويشْرَح حكمها من سُوَر القرآن الأخرى.
ثم هي مشْعِرةٌ قلْبَ تاليها متدبِّرًا خاشعًا أصولَ لذَّة السعادة الإسلامية، وغارسةٌ في نفْسِه شجرةَ الإيمان الوارفة الظَّليلة، فيجد عنده أقوى باعث نفْسي وجداني إلى الاستزادة من تلك السَّعادة، والاعتناء التام بتلك الشجرة التي لا يجد نعيم العيش إلاَّ في ظلِّها، ولا يَعرف طَعْم نعيم الحياة إلاَّ في ثمارها، فهو أبدًا يحرص على سَقْيِها بماء القرآن العَذْب الذي يَزِيدها في قلبه تأصُّلاً، وفي ظلِّها امتدادًا، وفي ثمراتها كثرة ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
ومَن فَقهَ الفاتحةَ وتدبَّرها حقَّ التدبُّر، تفتَّحت له منها أبوابٌ من العلوم وافرة، وتفجَّر له من كلماتها بحارٌ من المعارف زاخرة، وبان له أتمَّ البيان حكمةٌ تحتمها في كلِّ ركعة من ركعات الصلاة قراءة بنفْسه، أو إصغاء لإمامه، ملْقِيًا إليها قلْبَه وهو شهيد، ويا حسْرة على الغافلين الذين يسارعون في قراءتها إسراعًا بلا تدبُّر ولا ترتيل! كم حُرموا من تلك العلوم، وكم فاتَهم من خيرات القرآن وهدايته؟ وكم سيكون ندَمُهم في القريب العاجل ولا ينفعهم؟
روى البخاريُّ في أبواب التَّفسير عن أبي سعيد بن المعلَّى، قال: كنتُ أصلِّي في المسجد، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - فلم أُجِبه، فقلتُ: يا رسول الله، إنِّي كنت أصلِّي، فقال: ألم يَقُل الله: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]؟ ثم قال لي :((لأعلِّمنك سورة هي أعظم السُّور في القرآن))، وفي رواية: ((لأعلِّمنَّك أعظم سورة في القرآن))، وفي حديث أبي هريرة: ((أتحبُّ أن أعلِّمك سورة لم يَنْزِل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبُور ولا في القرآن مثْلُها، قبل أن تخرج من المسجد؟)) ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرج قلتُ له: ألم تقل: ((لأعلمنَّك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟))، قال: (({الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ هي السَّبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُوتيتُه)).
وسُمِّيت "مثاني"؛ لأنَّها تُثنَّى بالقراءة، وتكرَّر في كلِّ صلاة، ولأنَّ ما يجد قارئها فيها من لذَّة ومتعة يَدْعوه للعودة إلى تَثْنيتها، وتثنية الحبل: تكرير فَتْله، أو سُمِّيت مثاني؛ لأنها استُثْنِيت لهذه الأمَّة، فخُصَّت بها دون غيرها من السابقين.
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((قال الله - عزَّ وجل - : قسمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفينِ، ولِعَبدي ما سَأَل؛ فإذا قال العبدُ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الفاتحة: 2]، قال الله: حَمِدني عبدي، فإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، قال الله: أثنَى عليَّ عبدي، فإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، قال الله: مجَّدَني عبدي - وقال مرَّة: فوض إليَّ عبدي - وإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، قال: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6 - 7]، قال: هذه لعبدي، ولِعَبدي ما سأل)).
وفي الأسماء الحسنى "الله، ورَبّ، والرَّحمن" التعريفُ بالمعبود - سبحانه وتعالى - لأنَّ تلك الثلاثةَ الأسماء هي مرجع أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وفي ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5] إخلاصُ حقِّ الإلهية بإخلاص العبادة له وحْده، وفي ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] حقُّ الرُّبوبية بطلب المعونة منه - سبحانه - إذْ لا يقْدِر عليها سواه، وطلب الهداية إلى الصِّراط المستقيم مَبْناه على صفة الرَّحمة، والحمد يتضمَّن تلك الأمور الثلاثة، فالله المحمود في إلهيته وربوبيته ورحمته، والثَّناء والمجد كمالان لِجَدِّه.
وفي قوله: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4] إثبات المعَاد، وجزاء العِبَاد على حسنَاتهم وسيِّئاتهم، وأنَّه هو المتفرِّد بالحُكْم والفصْل في ذلك، وحكمه العدل، فلا تُظلم نفسٌ شيئًا.
وتضمَّنَت هذه السُّورة إثبات النبوَّات؛ فإنه لا يليق بربِّ العالمين وسيِّدهم ومالكِهم ومدبِّرهم أن يَترك الإنسان سُدًى، لا يُعرِّفه ما ينفعه في معاشه ومَعاده، وما يضرُّه في دنياه وآخرته، وهذا من أمحَلِ المُحال، والمَأْلوه الذي لا يَرضى إلاَّ إفرادَه وتخصيصه بالعبادة، لا سبيل لعابديه أن يؤدُّوا حقَّ ألوهيَّته على وجهها الذي يرضيه إلاَّ من طريق العلم عنه بما يحبُّ لنفْسه وما يحبُّ لعابديه؛ وذلك لا يكون إلاَّ بواسطة رسُله.
ومَن أَعطى اسمَ "الرَّحمن" حقَّه عَرَف أنَّه متضمِّن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظَمَ من تضمُّنه لإنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب! فإنَّ اقتضاء الرحمة لما يُحيِي القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما يحيي الأبدان والأشباح، لكنِ المحْجُوبون أدركوا من هذا الاسم حظَّ البهائم والدوابِّ، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك.
والربُّ الذي يَدِين العباد على أعمالهم، فيَجْزِي المحْسِن بإحسانه والمسيء بإساءَتِه، لا بدَّ أن يُقِيم برسله حجَّتَه للمحْسِنين، ويَقطع بهم معاذير المسيئين.
والهداية: هي البيان والدَّلالة، ثم التَّوفيق والإلهام، ولا سبيل إلى الدَّلالة والبيان إلاَّ من جهة الرُّسل، الذين هم سُفَراء الله إلى خلقه، وأُمَناؤه على دينه.
وهما هدايتان مستقلَّتان، لا يَحصل للعبد شيءٌ من الفَلاَح إلاَّ بهما مجتمِعَتين؛ إذْ بالدلالة نعرف الحقَّ تفصيلاً وإجمالاً، فلا يختلط علينا بالباطل، ولا يستطيع شياطين الإنس والجن أن يَلْبِسوا علينا أمْرَنا، ولا أن يُزِيغونا عن الصِّراط المستقيم، وبهداية التَّوفيق نتَّبِع الحقَّ ظاهرًا وباطنًا ونحبُّه، ونرضَى به، ونؤْثِره على الباطل.
والمؤمن يعلم عن يقين صادقٍ شدَّةَ حاجته إلى هاتَيْن الهدايتَيْن، وفقْره إليهما في كلِّ أدواره وأطواره، فكم من حقٍّ يجهله! وكم من صالح لا يبادر إليه! بل يتهاوَنُ عنه ويتكاسل، وكم من عجْز يُقعده إذا هو نشط وأراد! كم من كلِّ هذا كثير، فإن لم تَكُن لنا من الله هدايةُ إرشاد وتوفيق ومَعُونة، فوَيْل لنا من أنفُسِنا وشرورها، وويل لنا من أعمالنا وسيِّئاتها!
وإنَّ القلوب بين إصْبَعين من أصابع الرَّحمن يقلِّبها كيف يشاء، فالْزَم موضع الذُّل، ومقام الحاجة، وسَلْه أبدًا من كلِّ قلبك ونفسك، بكلِّ ذرَّة فيك: هدايةً تُقِيم لك معالِمَ الحقِّ وتَدلُّك عليه غيرَ ملتَبِس، وهداية تثبِّت قلبك على ما يحبُّ ربُّك ويرضى من هذا الحقِّ، الذي هو دين الإسلام.
ولما كان طالِبُ الصِّراط المستقيم يَطلب أمرًا كثر النَّاكبون عنه أعظمَ كثْرَة، وعزَّ الراغبون فيه غاية العزَّة، ونَدرُوا أشدَّ النُّدْرة، وكانت النفوس مجبولة على وحشة التفرُّد، وعلى الأُنْس بالرَّفيق، نبَّه الله - سبحانه - على كرم الرَّفيق في هذا الطريق، وأنه وإنْ قلَّ فهو خير مِن مِلء الأرض من غيره، والعاقل لا يَرغب إلاَّ في النَّفيس الكريم، ولا يرضى بالغُثَاء والزَّبَد وإن كثر.
وإنَّ أعداء الله سيختَطُّون من حول الصِّراط المستقيم وعلى جنبتَيْه خطوطًا يدْعُون إليها، ويُرغِّبون فيها بشتَّى المرغِّبات، ومن أعظمها عندهم السَّواد الأعظم والجمهور، وأكثر الناس، والآباء والأجداد، والسَّادة والقادة والرُّؤساء، كلُّ هؤلاء سيرغِّب بها دعاة الطُّرق الضالة إلى طرُقِهم، زائدين على ذلك التنفيرَ من الصِّراط المستقيم بكلِّ ما استطاعوا، ومِن منفِّراتهم: ليس عليه إلاَّ القليل النادر، وهؤلاء شُذَّاذ، وهم مخالفون لما عليه الجمهور، وهم خارجون على السَّواد الأعظم، وهم مُنقِصون للآباء والأجداد والشُّيوخ والسَّادة والكبراء.
فلا تأخذنَّك هذه التهاويل بجعاجِعِها، ولا تَعْبأ بتلك الأباطيل وقعاقعها، فما هي إلا طَبْل فارغ، وكلام أجوف، وما هي إلاَّ سراب بقِيعة، وغبار تَذرُوه رياح الحقِّ، وغُثاء تحْرِقه أنوار القرآن، وامْض قدُمًا في صراطك المستقيم، مؤتنسًا في غربتك بأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
ولا تكترِثْ بكثرة الناكبين فهم الأقلُّون قدْرًا، كما قال بعض السَّلف: عليك بطريق الحقِّ، ولا تستوحش لقلَّة السالكين، وإيَّاك وطريقَ الباطل ولا تغترَّ بكثرة الهالكين، وكلما استوحشتَ في تفرُّدك، فانظر إلى الرَّفيق السابق، واحرص على اللِّحاق بهم، وغُضَّ الطَّرْف عمَّن سواهم؛ فإنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريقِ سَيرك فلا تلتفت إليهم؛ فإنَّك متَى التفتَّ إليهم أخذوك وعاقُوك.
ولَمَّا كان أحبُّ العبادة إلى الله هو الدُّعاءَ، كما جاء في الحديث: ((الدعاء مُخُّ العبادة))، وكان الشَّيطان قد أغوى الناس بجعْل هذه العبادة لغير الله الذي لا يستحقُّها غيره، وزَيَّن لهم ذلك بالتوسُّلات الباطلة التي أدَّت بهم إلى أعظم ما يُغضِب اللهَ من الشِّرك، فقد حمَى الله عبادَه من كيد الشيطان وإزاغته بما علَّمَهم من الوسائل النافعة؛ من عبادته، والتقرُّب إليه بما يحبُّ من ذَكْره والثناء عليه بما هو أهله.
ولما كان أسْنَى المطالب وأجلُّها هو سؤالَ الله الهدايةَ إلى الصِّراط المستقيم، ونَيله هو أشْرف المواهب، فقد عَلَّم الله - سبحانه وتعالى - عبادَه كيف يسألونه ذلك، ورَسَم لهم أجمَل خطَّة وأحبَّها إليه في سورة الفاتحة: أن يقدِّموا بين يدَي سؤالهم حمْدَ ربِّهم، والثَّناء عليه بما هو أهله، وتمجيدَه والتَّفويضَ إليه، ثم اعترافَهم التامَّ بالعبودية والذِّلة، والخضوع والخشوع له وحْدَه، والفقْر والحاجة المطْلَقة إلى غِنَاه المطْلَق، والبراءة كلَّ البراءة من حوْلهم وقوَّتهم، والتنصُّل منهما إلى حول الله وقوَّته.
فهاتان هما الوسيلتان إلى كلِّ مطلوب، وهما أحبُّ ما يحبُّه الله - تعالى - إذْ جعل ذلك دينًا لنا في صبَاحنا ومسائِنا وجميع أوقاتنا بهذه الفاتحة، فالوسيلة الأُولى بأسمائه الدالَّة على عظمته، وجلاله وكبريائه، وفضله ورحمته، وكرمه وعطائه، والثانية بفقر العبد إلى ربِّه ومسْكنته، هاتان الوسيلتان لا يكاد يُردُّ معهما دعاء.
ومِثل هذا ما روَى الإمام أحمد والتِّرمذي وابن حبَّان عن عبدالله بن بُريدة عن أبيه قال: سَمِع النبي - صلى الله عليه وسلَّم - رجلاً يدْعو ويقول: اللَّهم إني أسألك بأنِّي أشهد أنَّك الله الذي لا إله إلاَّ أنت، الأحد الصَّمد، الذي لم يلد و لم يُولَد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال: ((والَّذي نفسي بيده، لقد سَأَل الله باسمِه الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى))؛ قال الترمذي: حديث صحيح.
فهذا توسل إلى الله بتوحيده، وشهادة الدَّاعي له بهذه الوحدانية، وثبوت صفاته المدلول عليها باسم "الصَّمد"، وهو العالِم الذي كَمُل علمه، والقادر الذي كَمُلت قدرته، والسيِّد الذي قد كمل فيه جميع السَّؤْدد، والملاذ الذي تَفْزع إليه كلُّ القلوب، وتَقْصده وتتوسَّل إليه بتَنْزيهه عن التَّشبيه والمثيل، وأنَّه الذي ﴿ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]، وهذه ترجمة عقيدة أهل السُّنة، والتوسُّل بالإيمان بذلك والشَّهادة به هو الاسم الأعظم؛ أي: الأعظم في الثَّناء على الله، والأكثر في ذِكر الله.
ومِن هذا ما روَى البخاري في "صحيحه" عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - كان إذا قام يصلِّي من الليل قال: ((اللهم لك الحمْد أنت نُور السَّموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد أنت قيُّوم السَّموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحقُّ، ووعدك الحق، ولقاؤك حقٌّ، والجنَّة حقٌّ، والنار حق، والنبيُّون حق، والساعة حق، ومحمَّد حق، اللهم لك أسلمتُ، وبك آمنت، وعليك توكَّلت، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرتُ، وما أسررْت وما أعلنت، وأنت إلهي، لا إله إلا أنت)).
فذَكَر التوسُّل إليه بحمْده والثناء عليه، وبعبوديته، ثم سأَلَه المغفرة، وخيْرُ الهدْي هدْي محمَّد - صلى الله عليه وسلَّم.
هذا صِراط الله المستقيم في الدُّعاء الذي هو مُخُّ العبادة، رأيته في سورة الفاتحة وفي هذين الحديثين، وفي القرآن كثيرٌ من حكاية دعاء الأنبياء وعباد الله الصَّالحين ودعاء الملائكة، وفي السُّنَّة الكثير الطيِّب من الأدعية النبوية التي هي خير الهَدْي في الدُّعاء والدِّين كلِّه، لا تجد في شيء من كلِّ ذلك إلاَّ التوسُّل إلى الله بما يحبُّ من أسمائه وصفاته، والعمل الصالح من صلاة وصدقة وذِكْر، وما إلى ذلك