الإمام أحمد بن حنبل
رضي الله عنه
نسبه :
هو الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الذهلي .
وهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه واسمها صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك
الشيباني من بني عامر
فقد انحدر الإمام أحمد من قبيلة عربية أصيلة غير أعجمية ولا مهجنة والتقى
نسبه الشريف مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان.
وقبيلة شيبان هذه عرفت بالهمة والإباء وشدة الشكيمة والصلابة كان منها
المثنى بن حارثة القائد الإسلامي المعروف . وكان جده حنبل واليا على سرخس
في العهد الأموي ويدعو للعباسيين حين لاح نجمهم في الأفق . وكان أبوه محمد
جنديا من جنود الحرب بل وصفه الأصمعي أنه كان قائدا.
وقد ورث أحمد رضي الله عنه عن أسرته الكريمة عزة النفس وقوة العزم والصبر
واحتمال المكاره والإيمان الراسخ القوي وكان ذلك كله ينمو كلما شب وترعرع
ويتبين في سجاياه كلما عركته الحوادث وأصابته نيران الفتن.
مولده ونشأته :
ولد أحمد رضي الله عنه في ربيع الأول سنة 164 ه جيء به حملا من مرو وولد
في بغداد توفي أبوه شابا فقامت أمه على تربيته في ظل الباقي من أسرة أبيه .
وكان أبو قد ترك له عقارا ببغداد يسكنه وآخر يغل له غلة قليلة لا تقوم
بنفقات الأسرة فنشأ على الصبر والقناعة والكفاف
وكان في هذا كشيخه الشافعي : نسب رفيع ويتم وحال من الفقر الذي يجد فيه
الكفاف ولا يستخذي بالحاجة وهمة عالية ونفس أبية وعقل ذكي أريب ولقد تشابهت
نشأة التلميذ والأستاذ تشابها غريبا فكلاهما كان بهذه الأحوال التي
ذكرناها وكلاهما كانت أم ترعاه وتدفعه إلى العلا وتكنف مواهبه لتزكو وتنمو
لا تجعلها تنطفئ أو تخبو .
حفظ أحمد رضي الله عنه القرآن وهو غلام وتعلم علوم اللغة ثم اتجه إلى
الديوان يمرن على التحرير ويقول عن نفسه : " كنت وأنا غليم أختلف إلى
الكتاب ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة " . وكانت نشأته فيها
آثار النبوغ والرشد حتى قال بعض الآباء : " أنا أنفق على ولدي وأجيئهم
بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم
انظروا كيف ؟ وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته "
وكان عمه يرسل الكتب إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة وقد
أرسلها مرة مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك ورمى بها الماء تأثما عن
الوشاية والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر بالمسلمين وقد لفت هذا الورع
وهذه النجابة نظر كثيرين من أهل العلم والفراسات حتى قال الهيثم بن جميل : "
إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه "
ويظهر أن هذه الفراسة قد تحققت فقد عاش الفتى حتى وصل إلى السابعة
والسبعين وكان نورا لأهل زمانه بعلمه وخلقه وورعه وصبره وقوة احتماله
واستهانته بالأذى في سبيل ما يعتقد.
طلبه للعلم ومنزلته العلمية :
1 - طلبه للعلم : اتجه أحمد رضي الله عنه إلى طلب العلم الذي وجهته أسرته
إليه واستقام ذلك التوجيه مع نزوعه الخاص . وبذلك تلاقت ميوله مع الوجهة
التي وجه إليها وكانت بغداد فيها علوم الدين واللغة والرياضة والفلسفة
والتصوف إذ كانت حاضرة العالم الإسلامي . فاختار الإمام أحمد في صدر حياته
رجال الحديث ومسلكهم فاتجه إليهم أول اتجاهه ويظهر أنه قبل أن يتجه إلى
المحدثين راد طريق الفقهاء الذين جمعوا بين الرأي والحديث فيروى أن أول
تلقيه كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة فقد قال : " أول من كتبت عنه
الحديث أبو يوسف " . ولكنه مال من بعد إلى المحدثين الذين انصرفوا بجملتهم
للحديث وبقي يتلقى الحديث بغداد من سنة 179 ه إلى سنة 186 ه ولزم عالما
كبيرا من علماء الحديث وآلاثار ببغداد أربع سنوات وهو شيم بن بشير بن أبي
حازم الوسطي ( المتوفي سنة 183 ه ) . وكانت سنه عند الملازمة حوالي الست
عشرة سنة وكتب الإمام أحمد عنه كتاب الحج وبعضا من التفسير وكتاب القضاء
وكتبا صغارا.
ولقد استمع أيضا ملازمته لهشيم إلى عبد الرحمن بن مهدي وأبي بكر بن عباس .
وبعد موت هشيم أخذ أحمد رضي الله عنه يتلقى الحديث حيثما وجده وحيثما كان
ومكث ببغداد نحو ثلاث سنوات يأخذ من شيوخها بجد وأدب ونشاط فقد ذكر عن نفسه
" " كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي حتى يؤذن الناس أو
حتى يصبحوا "
2 - رحلاته العلمية : ابتدأ الإمام أحمد رحلاته في سنة 186 ه ليتلقى الحديث
عن الرجال شفاها ويكتب عن أفواههم ما يقولون فرحل إلى البصرة ورحل إلى
الحجاز ورحل إلى اليمن ورحل إلى الكوفة وما سمع بعالم إلا رحل إليه إلا إن
حالت المنية دون اللقاء فلم يستطع الاستماع إلى الإمام مالك إذ مات الأخير
عند ابتدائه في طلب الحديث ولم يتمكن من الاستماع إلى ابن المبارك إذ أن
آخر قدمة له ببغداد كانت في السنة التي اتجه فيها أحمد رضي الله عنه إلى
طلب الحديث ولم يظفر بلقائه كما ضاقت نفقته عن الرحلة إلى الري وقال : " لو
كان عندي خمسون درهما لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد .
"
وكما رحل الإمام أحمد في سبيل
طلب العلم رحل في سبيل الحج فقد روى لنا أنه حج خمس مرات ثلاثا على قدميه
واثنتين راكبا . . وفي سنة 187 ه التقى في رحلته إلى الحجاز مع الإمام
الشافعي وأخذ عنه الفقه وأصوله وعلم الناسخ والمنسوخ ولقي الإمام الشافعي
بعد ذلك ببغداد وقد حرر الشافعي فقهه ونضج أحمد رضي الله عنه في الحديث
وعلم الرواية حتى كان الإمام الشافعي يقول له : " إذا صح عندكم الحديث
فأعلمني به " .
إذن كان الإمام أحمد يحتفي بطلب الحديث وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم
وفتاوى أصحابه كما كان يطلب علم الفقه والاستنباط وكان معجبا في هذا الباب
بمنهج الشافعي الفقهي في القياس والاستنباط واعترف بذكائه الباهر وقوة
قياسه حتى قال : " ما رأت عيناي مثله "
ومما يدل على علو همة أحمد رضي الله عنه في طلب العلم واستطابته المشقة في
سبيل ذلك قصة يرويها ولده صالح قال : " عزم أبي على الخروج إلى مكة ورافق
يحيى بن معين قال أبي : نحج ونمضي إلى صنعاء إلى عبد الرزاق بن همام ( إمام
الحديث في اليمن ) قال : فمضينا حتى دخلنا مكة فإذا عبد الرزاق في الطواف
وكان يحيى يعرفه فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق فسلم عليه يحيى وقال : هذا
أخوك أحمد بن حنبل فقال : حياه الله إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به ثبته
الله على ذلك ثم قام لينصرف فقال يحيى : ألا نأخذ عليه الموعد ؟ فأبى أحمد
وقال : لم أغير النية في رحلتي إليه ثم سافر إلى اليمن لأجله وسمع عنه
الكتب وأكثر عنه "
واستمر على هذا الجد والطلب حتى بلغ مبلغ الإمامة في الحديث والفقه قال عبد
الله ابن أحمد سمعت أبا زرعة يقول : " كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث فقيل له
وما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب " . وقال أبو عبيدة : " ما
رأيت رجلا أعلم بالسنة من أحمد " . وقال القاسم بن سلام : " انتهى العلم
إلى أربعة : أحمد بن حنبل علي بن المديني أبي بكر بن شيبة ويحيى ابن معين .
وأحمد أفقههم " وقال أحمد بن سعيد الرازي : " ما رأيت أسود الرأس أحفظ
لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقه من أحمد بن حنبل " . وقد
شهد له الإمام الشافعي بذلك فقال : " خرجت من بغداد وما خلفت به أفقه ولا
أورع ولا أزهد ولا أعلم من أحمد "
وقد استمر أحمد رضي الله عنه على جده في طلب العلم حتى بعد أن بلغ مبلغ
الإمامة وكان رحمه الله تعالى يقول : " أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر "
. وهكذا كان الإمام أحمد يسير على الحكمة المأثورة : " لا يزال الرجل
عالما ما دام يطلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل "
3 - جلوسه للتحديث والفتوى : جلس أحمد رضي الله عنه للتدريس والفتيا في
المسجد الجامع ببغداد وقد بلغ الأربعين فوافق في نشر علم النبوءة سن
النبوءة وكان إقبال الناس على مجالسه عظيما إذ كان ذكره قد ذاع في الآفاق
الإسلامية قبل أن يتخذ مجلسا ويروى عدد من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة
آلاف وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة
وكانت مجالسه تمتاز بالوقار والسكينة وحسن الإنصات وإجلال العلم وكانت
بعيدة عن الدعابة والهزل وكل ما يذهب رواء العلم وروعة الدين وكان للفقراء
تقديم على الأمراء والأغنياء، نقل الذهبي عن المروزي قال : " لم أر الفقير
في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله كان مائلا إليهم مقصرا عن أهل الدنيا
وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار
إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل وإذا خرج إلى مسجده
لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس "
ويظهر أنه كان له مجلسان للدرس والتحديث أحدهما : في منزله يحدث فيه خاصة
تلاميذه وأولاده والثاني : في المسجد يحضر إليه العامة والتلاميذ . وكانت
دروسه من حيث موضوعها قسمين : أولهما : رواية الحديث ونقله : وهذه يميلها
على تلاميذه من كتاب لا اتهاما لذاكرته بل حرصا على جودة النقل وإبعاد
لمظنة الخطأ ما أمكن وفي الأحوال النادرة جدا كان يقول الحديث من غير رجوع
إلى كتاب.
وثانيهما : فتاويه الفقهية التي
كان يضطر إلى استنباطها وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها ولا يسمح لهم أن
ينقلوها عنه إذ أنه ما كان يستجيز التدوين إلا لأحاديث رسول الله صلوات
الله وسلامه عليه . إلا أنه اضطر في آخر أمره أن يجيز كتابة فتاويه بل
نشرها وبخاصة بعد محنته وذيوع اسمه وشهرته في كل البقاع الإسلامية بعلوم
الدين كلها سواء ما كان يتصل بالعقيدة أم بالحديث والفقه.
فقد كان الناس يقصدونه للفتوى من أقصى العراق والشام وخراسان لمنزلته
وشهرته في الورع والتقوى والفقه فكثرت فتاويه حتى يروي العليمي في بيان علم
الإمام أحمد رضي الله عنه ومنزلة فقهه أن عبد الوهاب الوراق قال : " ما
رأيت مثل أحمد بن حنبل فقالوا له وأي شيء بان لك من فضله ؟ فقال : رجل سئل
عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها : حدثنا وأخبرنا "
وهذا الكلام يدل على أن الإمام أحمد كان يعتمد في فتاويه على أحاديث وأخبار
وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم وهو يعتبر في ذلك الحجة الثبت الذي لا
يجارى ولا يباري . ولم يبح لنفسه أن يجتهد وأن يستنبط إن لم يجد ضرورة
تستدعي ذلك .
ولحرص أحمد رضي الله عنه في فقهه أن يكون بعيدا عن الابتداع في الدين كان لا يفتي إلا فيما يقع من الأمور.
وإذا كان الإفتاء في الأمور المتوقعة يكسب الفقه ضبطا وإحكاما في الصياغة
فإن الإفتاء في الأمور الواقعة يكسبه حياة وقوة ولذلك كان الفقه الحنبلي
المأثور حيا نضرا ريان المحيا فيه جلال السلف إذ هو أثر أو من ينبوع الأثر
ولقد كان أحمد رضي الله عنه لتمرسه بالآثار قوي الإدراك لما يشبهها فينطق
به لأن فكره تكون منه وأشرب به ومازج عقله وأطواء نفسه.
وهكذا كان الإمام أحمد سلفيا في فقهه وفتاويه لا يقفوا ما ليس به علم لأنه
يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهج السلف لا يتكلف التعمق في مسائل
عقلية قد تكون متاهات للعقل البشري وإذا خرج من وعثائها سالما فقد جهد
نفسه في غير طائل وشغل فكره في غير جدوى ولها عن ذكر الله وصد نفسه عن سبيل
العبادة.
وبذلك نرى كيف انعقدت الإمامة لأحمد رضي الله عنه في الفقه والورع والسنة
قال الحافظ الذهبي يصفه : " هو عالم العصر وزاهد الوقت ومحدث الدنيا ومفتي
العراق وعالم السنة وباذل نفسه في المحنة وقل أن ترى العيون مثله كان رأسا
في العلم والعمل والتمسك بالأثر ذا عقل رزين وصدق متين وإخلاص مكين وخشية
ومراقبة للعزيز العليم وذكاء وفطنة وفهم وسعة علم . . . . "
ولقد هيأته لهذه المكانة أربعة عوامل
أولها : صفاته
وثانيها : الموجهون له من الشيوخ ومن يتصل بهم
وثالثها : دراسته الخاصة
ورابعها : العصر الذي أظله والبيئة التي اكتنفته
ولنتجه إلى بيان كل عامل من هذه العوامل ليتجلى لنا كيف تكونت لأحمد رضي الله عنه تلك الثروة العلمية الضخمة
- 1 - صفاته :
اتصف أحمد رضي الله عنه بصفات كانت هي السبب في هذه الشهرة التي اكتسبها وفي ذلك العلم الغزير الذي خلفه من بعده
- أول هذه الصفات الحافظة القوية الواعية وهي صفة عامة المحدثين وأهل
الإمامة منهم بشكل خاص . ولقد شهد بقوة حفظه وضبطه معاصروه حتى عد أحفظهم
- والصفة الثانية وهي أبرز صفات أحمد رضي الله عنه وهي التي أذاعت ذكره صفة
الصبر والجلد وقوة الاحتمال وهي مجموعة من السجايا الكريمة أساسها قوة
الإرادة وصدق العيمة وبعد الهمة . وهذه الصفة هي التي جعلته يحتمل ما يحتمل
في طلب العلم غير وان ولا راض بالقليل منه
ولقد كانت صفة الصبر التي امتاز بها الإمام أحمد من نوع الصبر الجميل فقد
نزل به الأذى فما أن وما ضج بالشكوى . وكان فيه صاحب الجنان الثابت الذي
لا يطيش ولا يذهب .
ومما يروى دليلا على ذلك أنه أدخل على الخليفة في أيام المحنة وقد هولوا
عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم وقد ضرب عنق رجلين في حضرته ولكنه في وسط ذلك
المنظور المروع وقع نظره أيضا على بعض أصحاب الشافعي فسأله : وأي شيء تحفظ
عن الشافعي في المسح على الخفين فأثار ذلك دهشة الحاضرين وراعهم ذلك
الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي
داؤد متعجبا : " انظروا لرجل هو ذا يقدم لضرب عنقه فيناظر في الفقه".
- وكان أحمد رضي الله عنه كثير
العفو عمن يسيء إليه أغلظ له رجل الكلام وتركه مغضبا ثم عاد إليه نادم وقال
له المعتذر : يا أبا عبد الله إن الذي كان مني على غير تعمد فأنا أحب أن
تجعلني في حل فقال أحمد رضي الله عنه : " ما زالت قدماي من مكانها حتى
جعلتك في حل " . وقد عفا عن كل من أساء إليه أو تسبب في عقوبته ومحنته
- أما الصفة الثالثة من صفات الإمام أحمد التي امتاز بها فهي النزاهة بأدق
معانيها ولقد دفعته عفة النفس أو نزاهتها أن يترك بعض الحلال وأن يمتنع عن
قبول عطاء الخلفاء مع تصريحه لبعض أولاده بأنه حلال يصح الحج منه وأنه
يتركه تنزيها للنفس لا تحريما.
وبهذا التضييق الذي سلكه في شأن نفسه كان يأكل إلا من كسب يده أو من غلة
عقار ورثه ويلقى في سبيل ذلك العناء الشديد والحرمان من كثير من طيبات
الحياة ولهذا كان زاهدا ولكنه زهد ليس أساسه رغبة الرغبة عن طيبات الحياة
بل أساسه طلب الحلال ولكن لا يطلبه من مال فيه شبهة بل من مال يناله من غير
أن تصاب النفس في نزاهتها أو عزتها ومن غير أن يلجأ في ذلك إلى أحد من
العباد .
وقد كان يضطر في بعض الأحيان أن يؤجر نفسه للحمل في الطريق - وهو إمام
المسلمين - يومئذ - وقد ابتلي في أيام المتوكل بالإقبال والصلات والجوائز
كما ابتلي في أيام المعتصم بالتعذيب والصرم والقسوة وكان في كليهما صابرا
عفيفا نزيها وكانت الأولى أشد عليه من الأخرى وقد ثبت على عفافه وزهده
وعزوفه عن أموال السلطان وله في ذلك أخبار غريبة .
ويروى أن وزير المتوكل كتب له : " إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة
ويأمرك بالخروج إليه فالله الله أن تستعفي أو ترد المال فيتسع القول لمن
يبغضك " فيضطر أحمد رضي الله عنه ليبدد ظلمات السعاية إلى القبول ولكنه لا
يمسه ويأمر ولده صالحا أن يأخذه ثم يوزعه في اليوم التالي على أبناء
المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل التجمل والحاجة وكأنه يرى أنهم أولى بمال
المسلمين منه وقد حرموا عطاءهم.
وقد استفاد أحمد من هذا الزهد والتوكل على الله قوة روحية وصلة عميقة بالله
وإنابة إليه استحق بها النصر وتغلب على نزوات النفس وشهواتها.
- والصفة الرابعة من صفات الإمام أحمد هي الإخلاص . والإخلاص في طلب
الحقيقة ينقي النفس من أدران الغرض فتستنير البصيرة ويستقيم الإدراك ويشرق
القلب بنور المعرفة وهداية الحق . ولهذا كان أحمد رضي الله عنه يتجنب
الرياء ويبالغ في الابتعاد عنه وكان يؤثر أن لا يسمع به أحد فكان يقول : "
أريد النزول بمكة ألقي نفسي في شعب من تلك الشعاب حتى لا أعرف "
ولهذا المعنى الجليل الذي سيطر على نفسه فجعلها خالصة لربه كان يستقل ما
يقوم به من عبادات ولا يستكثر ما وقع له من محنة فكان لا يذكرها ويستر
آثارها وكان بعيدا عن الزهو والافتخار متواضعا لله متطامنا للناس ولا يفتخر
في شيء قال يحيى بن معين : " ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبته خمسين سنة ما
افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير "
- وقد وضع الله له القبول في قلوب العباد وطار ذكره في الآفاق ودعا له
المسلمون وتقربوا بحبه إلى الله وهو يخاف على نفسه من الاستدراج قال
المروزي : " قلت لأبي عبد الله : ما أكثر الداعي لك قال : أخاف أن يكون هذا
استدراجا بأي شيء هذا ؟ " .
وقد كان كثير من غير المسلمين يجلونه ويخضعون له ويعتقدون فيه الصلاح
ويتبركون بزيارته قال المروزي : " أدخلت نصرانيا على أبي عبد الله يعالجه
فقال : يا أبا عبد الله إني أشتهي أن أراك منذ سنين ما بقاؤك صلاح الإسلام
وحده بل للخلق جميعا وليس من أصحابنا أحد إلا رضي بك "
- أما الصفة الخامسة التي امتاز بها الإمام أحمد وجعلت لدروسه وكلامه موقع
من نفوس سامعيه لا تزول فهي الهيبة . فقد كان مهيبا وقورا وكان الناس
مدفوعين إلى إجلاله وتهيبه شأن " من تواضع لله رفعه الله " يقول أحد
معاصريه : " دخلت على إسحاق بن إبراهيم وفلان وفلان من السلاطين فما رأيت
أهيب من أحمد بن حنبل صرت إليه أكلمه في شيء فوقعت علي الرعدة حين رأيته من
هيبته "
- 2 – شيوخه :
يعتبر من شيوخ أحمد رضي الله عنه كل من تلقى عليهم فقها أو أخذ عنهم سنة أو
روى عنهم حديثا سواء أكان قد انتقل إليهم أم كانوا معه في بغداد وقد أحصى
ابن الجوزي في مناقب أحمد شيوخه عدا فتجاوزت حسبتهم المائة . وكان تنوع
شيوخه من أسباب كثرة تحصيله وعمق معلوماته . والذي لا شك فيه أنه كان
لبعضهم أثر أكبر من البعض الآخر في حسن التوجيه وسداد الرأي.
ومن أبرز الشخصيات التي كان لها بالغ الأثر في توجيهه إلى السنة وفي توجيهه
إلى السنة وفي توجيهه إلى الفقه شخصيتان . أما الشخصية الأولى التي جعلت
منه طالب سنة دءوبا في طلبها يجوب لأجلها الأمصار فهي شخصية هشيم بن بشير
الذي لزمه نحو أربع سنوات كما ذكرنا تكونت له خلالها النواة الأولى لعلمه
في الحديث.
أما الشخصية الثانية فهي شخصية الشافعي رضي الله عنه الذي اتصل به الإمام
أحمد عقب وفاة هشيم عندما ذهب يحج بيت الله الحرام فالتقى به هناك وأثار
إعجابه عقله الفقهي وقوة استنباطه ولقد صرح أحمد رضي الله عنه بذلك وكان
يقول فيه : " يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله عز وجل
يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها فكان عمر بن
عبد العزيز على رأس المائة وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة " . وعلى
هذا يعتبر الإمام الشافعي الموجه الثاني لأحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى
أصول الاستنباط كما وجهه هشيم في صدر حياته إلى الحديث وطلب السنة
- 3 - دراساته الخاصة :
وإذا كنا قد قصرنا عدد الموجهين للإمام أحمد على اثنين من العلماء فذلك لأن
أحمد رضي الله عنه كان موجهه الأكبر من نفسه ونزوعها وميولها والتي نمتها
الدراسات الشخصية المختلفة ونوع الحياة الذي اختاره واكتفاؤه من المال
بالقليل وعدم اتجاهه إلى مطمح مما تطمح إليه نفوس الرجال وترنو إليه
أنظارهم فكانت حياته كلها للحديث وفقه السنة.
لقد طلب أحمد رضي الله عنه الحديث والسنة وكان كلما أوغل في الطلب اشتدت
رغبته فيه كمن يذوق طعاما فيستطيبه إذ الرغبة بعد الذوق تشتد بيد أن نهمة
العلم لا تشبعها كثرة ونهمة الطعام يشبعها القليل لأن الأولى معنوية
والمعاني لا تتخم والثانية مادية وقليل المادة يتخم
ولقد كان أحمد رضي الله عنه يجهد في دراساته بين الأمصار وقد ذكرنا كيف كان
في صدر حياته كثير الانتقال إلى الأمصار والجوب في القفار ومحبرته في
رحاله وهو يقول بلسان الحال : مع المحبرة إلى المقبرة ولا يمتنع - وهو
الكهل الذي يعده الناس إماما - على أن يعمل في طلب العلم ما يعمله الشاب
الذي يستقبل العلم وكان يقول وهو الإمام الحجة المقتدى به : " أنا أطلب
العلم إلى القبر " . وكان قدوته في ذلك سيرة إمامين جليلين لم يلقهما هما
سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك . فقد اتخذهما أحمد رضي الله عنه
أستاذين له من سيرتهما ومروياتهما وكان يتلاقى معهما في أكثر ما اختلط
لنفسه من السلوك في هذه الحياة
- 4 - عصره :
كانت حياة الإمام أحمد في العصر الذهبي من الخلافة العباسية حيث نضج فيه كل
شيء وآتى أكله . . فمن الناحية السياسية استقرت الأمور للدولة العباسية
استقرارا تاما بعد فتنة الأمين والمأمون فانصرف الخلفاء إلى الجهاد وصار
للدولة الإسلامية قوة وسلطان وازدهرت الحياة الدينية فيها
وأما من الناحية الفكرية فقد نضج الفقه واستقامت طرائقه والتقى العلماء
وتدارسوا الفقه ودونت المجموعة الفقهية لكل طائفة من المجتهدين كما ظهر في
ذلك العصر الاتجاه إلى وضع الكليات وضبط أساليب الاستنباط الفقهي وقد تولى
عبء ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وقد ضج في عصر الإمام أحمد أيضا علم الحديث وتم فيه الجمع بين أحاديث
الأقطار المختلفة وطبيعية ذلك الجمع الإحاطة بالأحاديث الواردة في الأبواب
الفقهية المختلفة ودراستها دراسة مقارنة في إسنادها وفيما يستنبط منها
الموازنة بينها من حيث القوة في حال تعارضها وتعرف الناسخ والمنسوخ وهكذا.
وإذا كان ذلك العصر هو عصر التقاء الثمرات الفقهية في كل الأمصار فإن ذلك
الالتقاء يصحبه احتكاك فكري بين العلماء ومن طبيعة هذا الاحتكاك أن تتولد
عنه المناظرات التي يقصد بها الوصول إلى الحق في القضايا المتنازعة.
وهكذا جاء الإمام أحمد في ذلك العصر الذي كان يزخر بأنواع المعارف والعلوم
فأخذ منها ما يتفق مع نزوعه ويتلاءم مع مزاجه ومسلكه الذي وجه إليه منذ
نشأته الأولى فاتجه إلى طلب الأحاديث والآثار من ينابيعها والعاكفين على
دراستها كما طلب الفقه من رجاله وممن غلب عليهم فكان إماما في الحديث
والفقه .
محنته :
لقد قدر الله لذلك الإمام الجليل أن يمتحن أبلغ المحنة وأن يكوى جلده
بالسياط وأن يساق مقيدا مغلولا يثقله الحديد . لا لشيء إلا إنه رفض أن يخوض
في أمر مما كان يخوض فيه المأمون والذين أرضاهم صفوة له من العلماء.
جاء في كتاب المقفى للمقريزي أن الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو في مصر
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأخبره ( أن المحنة ستكون وأن
الإمام أحمد بن حنبل سيمتحن ) قال الربيع بن سليمان فكتب الشافعي كتابا
وختمه ثم قال لي : يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى الإمام أحمد وأعطه
له ولا تقرأ فحملت الكتاب إلى العراق ووجدت الإمام أحمد يصلي سنة الفجر
فلما انتهى من الصلاة قدمت له الكتاب فعرفني وقرأه . فلما جاء عند موضع فيه
. بكى قلت له : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ قال لي : الشافعي يذكر لي أن
الرسول الله صلى الله عليه وسلم بشره أن سأمتحن وأنا أسأل الله سبحانه
وتعالى أن يحقق ذلك قريبا
قال الربيع : فقلت للإمام : هذه بشرى فأين جائزتي ؟ فخلع الإمام أحمد ثوبه
الذي يلي جلده وأعطاه لي . فلما رجعت إلى مصر رويت ما حدث للإمام الشافعي
فوجدت الشافعي يتمنى لو ظفر بثوب الإمام أحمد.
كانت هذه الرؤيا قبل أن تقع المحنة بسنوات ولقد فعلت في نفس الإمام أحمد
فعل السحر كما فعلت الرؤيا أخرى رآها هو بنفسه وحكاها لنا ابن عمه نبل بن
إسحاق بن حنبل فقال :
رأيت في المنام صديقا اسمه علي بن عاصم
واستبشر الإمام بهذه الرؤيا الثانية استبشارا كبيرا وقال : إن عليا تفيد علو المنزلة وعاصما تفيد العصمة في الفتنة.
ولذلك هش الإمام أحمد وبش لهاتين الرؤيتين العظيمتين واستعد نفسيا وعقليا للنزال والنضال .
بدأت المحنة سنة 218 - ه بورود كتاب المأمون على عامله في بغداد أن يجمع
العلماء من قضاء وخطباء ويسألهم عن القرآن فمن لم يقل أنه مخلوق عزله
العلماء وامتثل الوالي أمر الخليفة فجمع العلماء فأقروا جميعا إلا أربعة
منهم فلجأ إلى الشدة وأمر بوضعهم في الحبس وإثقالهم بقيود الحديد فوافق
اثنان وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح فأمر المأمون بحملهما إليه فشدهما
الوالي في الحديد ووجههما إليه .
وتوفي المأمون قبل أن يصلوا إليه وهو بالرقة كما توفي ابن نوح على الطريق
فبقي أحمد رضي الله عنه وحده وهكذا اختصرت فيه جبهة المحدثين الضخمة وانصبت
الأضواء كلها عليه اتجهت الأنظار إليه وتعلق نصر الجبهة بثباته فإن هو
انهزم انهارت جبهة المحدثين وتمت الغلبة للمعتزلة
وولي المعتصم وكان رجلا قوي الجسم يستطيع أن يصارع أسدا ولكنه كان ضعيف
العلم لا يستطيع أن يناظر أحدا وكان يجل أخاه المأمون ويراه مثله الأعلى
فسار على طريقته حتى جاوز الحدود.
ولبث الإمام أحمد في السجن وبلغ به الضعف كل مبلغ ومع ذلك فقد كان دائم
العبادة حاضرا مع الله . حدث ابنه بأن الإمام أحمد قرا عليه كتاب الإرجاء
وغيره في الحبس وبأن رآه يصلي بأهل الحبس وعليه القيد فكان يخرج رجله من
حلقة القيد وقت الصلاة والنوم.
وبعث المعتصم علماءه وقواده يناظرونه فكان يرفض الدخول في المناظرة ويأبى
الموافقة إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وحمل إلى حضرة المعتصم . وجرت المناقشة أمامه فكان يصر على هذا الرد ويقول
: " أعطوني شيئا من كتاب الله أو من سنة رسوله " . وجربوا أنواع الترغيب
بالعطايا والمناصب وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد . فلم يؤثر ذلك فيه أثرا
وبعثوا إليه بالعلماء يأتونه من باب التقية فكان يقول لهم : " إن من قبلنا
كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون " . وأظهر مرة أنه لا يخاف السجن ولكن
يخاف الضرب يخشى ألا يحتمل فتهزم فكرته . فقال له أحد اللصوص وكان معه في
السجن . " أنا ضربت عشرين مرة يبلغ مجموعها آلاف الأسواط فاحتملتها في سبيل
الدنيا وأنت تخاف أسواطا في سبيل الله إنما هما سوطان أو ثلاثة فلا تحس
شيئا " فهون ذلك عليه.
ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه فانخلعت كتفه من
الضربة الأولى وانبثق من ضهره الدم فقام إليه المعتصم يقول : يا أحمد قل
هذه الكلمة وأنا أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك وهو يقول : هاتوا آية أو
حديثا.
فقال المعتصم للجلاد : شد قطع الله يدك . فضربه أخرى فتناثر لحمه
وقال له المعتصم : لماذا تقتل نفسك من من أصحابك فعل هذا ؟
وقال له أحد العلماء وهو المروزي : ألم يقل الله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم )
قال أحمد رضي الله عنه : يا مروزي فانظر أي شيء وراء الباب فخرج إلى صحن
القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام . قال : أي شيء
تعلمون ؟
قالوا : ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه . فرجع . قال : يا مروزي أنا أضل هؤلاء كلهم ؟
أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم
ولما عجز المعتصم قال لجلادين : اضربوا وشدوا . فكان يجيء الواحد فيضربه
سوطين ثم يتنحى ويأتي الآخر حتى خلعت كتفاه وغطى الدم ظهره كله .
وانقطعت تكة سراويله فكادت تسقط وينكشف . ورآه الناس يحرك شفتيه . فتقف
السراويل مكانهم وسألوه بعد . فقال : قلت : يا رب إن كنت تعلم أني على الحق
فلا تهتك لي سترا
حتى أشرف على الموت وخاف المعتصم أن يثور الناس إن مات فرفع عنه الضرب
وسلمه لأهله بعدما لبث في السجن والقيود ثمانية وعشرين شهرا . وأرادوا أن
يسقوه شيئا فأبي أن يفطر وهو فيما هو فيه من الهول . ولم يخرج حتى أعلن أنه
سامح المعتصم وكل من حضر ضربه وبقي أثر الضرب فيه وبقيت كتفه مخلوعة حتى
مات.
على أن المحنة لم ترفع تماما إلا أيام المتوكل وكانت محنة حقا دامت نحوا من
أربع عشرة سنة تراخى عنه العذاب والتنكيل والاضطهاد في نصفها واستمر في
سائرها.
وخرج الإمام أحمد من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء والبدر من الظلماء
وكان كما قال بعض معاصريه : " أدخل الكبير فخرج ذهبا أحمر " . ولم يزل بعد
ذلك اليوم في صعود واعتلاء حتى تواضعت القلوب على حبه وأصبح حبه شعار أهل
السنة وأهل الصلاح حتى نقل عن أحمد معاصريه أنه قال : " إذا رأيت الرجل يحب
أحمد بن حنبل فاعلم انه صاحب سنة " . وقال شاعر :
أضحى ابن محنة مأمونة ... ويجب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمد متنقصا ... فاعلم بأن ستوره ستهتك
وقال علي بن المدني أحد أئمة الحديث في عصره ومن شيوخ البخاري :
إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة
كتبه :
تميز عصره الإمام أحمد بالتدوين والتأليف كما ذكرنا وقد نهج علماء عصره في
التدوين فأخرج لنا كتابه الضخم ( المسند ) الذي قال فيه الحافظ السيوطي : "
وكل ما كان في مسند احمد فهو مقبول فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن "
وقد سلك الإمام أحمد في مصنفه مسلكا يغاير مسالك المصنفين في الحديث على
الأبواب مما اعتدناه في كتب الصحاح والسنن فرتب كتابه على أسماء الصحابة
وذكر لكل صحابي أحاديثه مسندة .
وللإمام أحمد كتب آخرى ذكرها ابن النديم هي : كتاب العلم كتاب الفرائض كتاب
التفسير الناسخ والمنسوخ الزاهد الإيمان الأشربة المسائل الفضائل طاعة
الرسول الرد على الجهمية المناسك . ولم يصلنا منها إلا بعضها . وهناك كتب
آخرى لم يذكرها ابن النديم مثل : كتاب الصلاة وكتاب السنة.
تلاميذه :
سمع الإمام أحمد كثيرون منهم من روى الحديث عنه ومنهم من روى الحديث
والفقه ومنهم من اشهر برواية الفقه ونخص بالذكر منهم كم كان له الفضل في
نشر علمه رضي الله عنه وأشهرهم :
صالح بن أحمد بن حنبل : وعني بنقل أبيه ومسائله .
- عبد الله بن أحمد بن حنبل : اتجهت عنايته إلى رواية حديث أبيه روى المسند
وتممه . قال فيه أبوه : " إبني عبد لله محظوظ من علم الحديث لا يكاد
يذاكرني إلا بما لا أحفظ "
- أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الأشرم : روى عن الإمام أحمد مسائل في الفقه وروى عنه حديثا كثيرا
- عبد الملك بن الحميد بن مهران الميموني : صحب الإمام أحمد أكثر من عشرين
سنة . ونقل عنه الكثير وما يتميز به أنه كان يكتب عن أحمد رضي الله عنه فهو
على هذا من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا فقهه إلى الأجيال والذين كان
لروايتهم مكان من الاعتبار
أحمد بن محمد الحجاج أبو بكر المروزي : كان أخص أصحاب الإمام أحمد وأقربهم
إليه وأدناهم منه وروى عنه كتاب الورع كما روى عنه فقها كثيرا
- إبراهيم بن إسحاق الحربي : وهو من نقله فقه الإمام أحمد أيضا وقد وصفه
ابن أبي يعلي بقوله : " كان إماما في العلم رأسا في الزهد عارفا بالفقه
بصيرا بالأحكام حافظا للحديث . . . " وهؤلاء هم العلية من أصحاب أحمد رضي
الله عنه الذين كانوا من نقلة فقهه ثم حصلت الرواية عن الإمام أحمد في
طبقته أخرى منهم :
- أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال : وهو يعد جامع الفقه الحنبلي
وناقله ومن أكبر علماء المذاهب . صنف مذهب الإمام أحمد في كتابه ( الجامع )
الذي يقع في نحو عشرين مجلدا . وهناك اثنان لهما الفضل في تلخيص ما جمعه
الخلال والزيادة عليه في القليل النادر وهما :
- عمر بن الحسين أبو القاسم الخرقي : له كتاب ( المختصر ) وهو أشهر كتاب في
الفقه الحنبلي ويعتبر أصلا محترما في أصول هذا الفقه لذا توافر عليه
العلماء في الشرح والتعليق ولعل أعظم شروحه وأوفاها شرح ( المغنى ) لموفق
الدين المقدسي
- عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال : وهو يعد أشد تلاميذ الخلال
اتباعه له ونقلا عنه إلا أن فقهه لم يكن مقصورا على النقل الحنبلي بل وازن
بين الفقه الحنبلي والفقه الشافعي وسجل ذلك في كتاب سماه ( خلاف الشافعي ).
أولاده :
وهم تسعة : أكبرهم صالح والباقي هم : عبد الله وحسن ومحمد وسعيد وبنتان هما : زينب وفاطمة وتوأمان ماتا بعيد ولادتهما
ولقد ربى أحمد رضي الله عنه أولاده وأسرته على المنهاج الذي أحبه ولما
خالفه أولاده وضاقوا بشدة الشظف وطول الحرمان قال لهم : سدوا ما بيني
وبينكم.
مرضه ووفاته :
قال المروزي : " مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع
الأول ومرض تسعة أيام وكان ربما أذن للناس فيدخلوا عليه أفواجا يسلمون عليه
ويرد عليهم بيده . . . وكان يصلي قاعدا ويصلي وهو مضطجع لا يكاد يفتر
ويرفع يديه في إيماء الركوع وأدخلت الطست تحته فرأيت بوله دما عبيطا ليس
فيه بول فقلت للطبيب فقال : هذا الرجل قد فتت الحزن والغم جوفه. واشتدت
علته يوم الخميس ووضأته فقال : خلل الأصابع فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وقبض
صدر النهار فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت
وامتلأت السكك والشوارع "
قال المروزي : " أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة قال عبد الوهاب
الوثاق : ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية والإسلام مثله حتى بلغنا أن موضع
مسح وحرز على الصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف وحزرنا على القبور نحوا من
ستين ألف امرأة وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من
أراد الوضوء "
وبهذا الاحتشاد العظيم في جنازته تحقق ما أنبأ به بقوله : " قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز "
وكانت وفاته سنة 241 - ه رحمه الله تعالى .
المصدر: كتاب فقه العبادات ( حنبلي ). بتصرف