لجزء الأول :
مدخلا لدراسة النظام الزراعي في القرآن والسنة ومظاهره
الإعجازية
I- 1- المبادئ
العامة للنظام الزراعي في القرآن والسنّة :
1) الله هو
الفاعل الحقيقي والإنسان عليه العمل وبذل الجهد:
يقول الله تعالى في سورة
يس:
(وَآيَةٌ
لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً
فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ) (يّـس32،34)
أقر الله سبحانه في هذه
الآية انه هو الذي يحي الأرض وهو الذي يخرج الحب ويجعل الجنات ويفجّر الأنهار. فهو
المزارع الحقيقي على الإطلاق والإنسان مجرد وسيلة. فالله سبحانه نسب الثمر إليه
فقال "من ثمره"، إذن فهو المالك الحقيقي وفي الآن نفسه أكد على حقيقة أخرى وهي دور
الإنسان وأهمية جده واجتهاده فقال : وما عملته أيديهم".
إذن فهذه المعادلة هي
التي تقوم عليها فلسفة النظام الزراعي وأبياته : الله هو المزارع الحقيقي والإنسان
عليه أن يتعاطى كل الأسباب بجده وجهده وعقله لإنجاح هذه العملية. فلله الأمر من قبل
ومن بعد. وهذا ما يقره حتى غير المسلمين والباحثون في العلوم الزراعية، فيقولون إن
القطاع الزراعي جد مرتبط بالكوارث المناخية والظواهر الطبيعية. ونحن نقول مرتبط
بالقدرة الإلهية، ويؤكد الله سبحانه هذا المعنى في العديد من الآيات، في نبرة من
التحدي، لترسيخ هذا المفهوم في نفوس العباد.
- ( أَفَرَأَيْتُم
مَّا تَحْرُثُون أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ {64} لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ {65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ {66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون)َ
(الواقعة
67-69)
- (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ
ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل:60)
والأرض
وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء
ربكما تكذبان" (الرحمان 11-12 ).
2-
النشاط الزراعي تميل إليه نفوس الناس: يقول تعالى في سورة آل
عمران:"زين للناس حب الشهوات من النساء، والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب
والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث." ( الآية 14)
فالنشاط الزراعي تميل
إليه النفس البشرية بحكم الفطرة التي فطرت عليها. لذا فإن من أقدم الأنشطة
الاقتصادية في تاريخ البشرية هي الزراعة وتربية الماشية.
3-
الماء هو الركيزة الأساسية لأي نظام زراعي:
فعملية إحياء الأراضي
واستصلاحها ترتبط بتوفر عنصر الماء أو عدمه.
-
وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا {14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا
وَنَبَاتًا {15} (النبأ 15-16).
-
وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع
نضيد". ق 9-10.
-
"وجعلنا من الماء كل شيء حي" الأنبياء 30.
وفي هذا المجال مظاهر
إعجازية هامة ذكرها العديد من العلماء واطالوا شرحها وأطلقوا عليها اسم الظاهرة
المائية وعملية الإحياء.
4- التنوع
في المحاصيل النباتية
يقول تعالى في سورة
المؤمنون" الآية 18-21 (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ
لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ
فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ
سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ َإِنَّ
لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (المؤمنون18، 22)
ويقول تعالى في سورة
النحل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ
لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
(النحل).
لقد بينت هذه الآيات ان
النظام الزراعي في القرآن مبني على تنوع المحاصيل والمنتجات النباتية. ومن الأصناف
التي ركزت عليها هذه الآيات: الزرع والزيتون والنخيل والأعناب. فهذه الأنواع تمثل
مختلف الطبقات النباتية: العشبية، والجنبية والشجرية. وتواجد هذه الطبقات في النظام
الزراعي يمكن من التوازن الايكولوجي في هذه النظام البيئي.
وفي التركيز على هذا
التنوع البيولوجي داخل النظام الزراعي، تعريض غير مباشر على مساوئ الزراعات الوحيدة
(mono culture) والتي أظهرت التجارب
الزراعية الحديثة البعض منها مثل افتقار التربة، كثرة الأمراض والآفات النباتية
والحشرات واكتسابها المناعة ضد المبيدات. وهناك أيضا إشارة إلى ضرورة احترام الدورة
الزراعية وتداول المنتوجات على المقسم الأرضي الواحد خلال السنوات، وما فيها من
منافع : كخصوبة التربة وارتفاع الإنتاج والقضاء على الآفات الزراعية والحشرات.
ناهيك عن الفوائد الاقتصادية والتقنية التي تتمثل
في الاستعمال الأمثل
للأرض واليد العاملة طيلة السنة.
ونلاحظ أيضا أن القرآن
ركز في العديد من المواقع على عدة أنواع من المحاصيل التي يعرفها العرب مثل الرمان،
الزرع، العنب، الزيتون والنخيل وهي أصناف مقاومة للظروف المناخية الصعبة وتتلاءم مع
مختلف أصناف التربة. والنخيل الذي أولاه القرآن عناية خاصة، فيه من الاعجاز ما أطال
في وصفه الباحثون والعلماء.
5- التكامل
بين الإنتاج النباتي والحيواني :
يقول الله تعالى في سورة
النحل: الله أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد
موتها، إن في ذلك لآية لقوم يسمعون. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه
من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه
سكرا ورزقا حسنا. إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من
الجبال بيوتا.' الآية 65-68.
في هذه الآيات ذكر الله
تعالى عملية الإحياء وما ينتج عنها من إنتاج نباتي ثم قرنه بالإنتاج الحيواني (وإن
لكم في الأنعام) وفي هذا دلالة على أن النظام الزراعي يقوم على ركيزتين : الإنتاج
النباتي والحيواني. ثم أضاف نوع آخر من الإنتاج الحيواني إلى جانب الأنعام وهي
تربية النحل وما فيها من إنتاج للعسل الذي هو شفاء وغذاء.
كما أشارت هذه الآيات
إلى نشاط تكميلي للنشاط الزراعي (ومن ثمرات..) وهو الصناعة الغذائية التحويلية مثل
عملية التخمر لانتاج الخمور والخل والخبز وتخمر الحليب لانتاج الجبن واشتقاق العديد
من المنتوجات الجديدة انطلاقا من هذه الثمرات (استخراج الزيت من الزيتون والدبس من
التمور، وعصير الغلال والمشروبات، والمربيات وتصبير الزيتون واستخراج الدقيق من
القمح...) وفي هذه الصناعات دورة اقتصادية هامة وربح اقتصادي عظيم عبر عنه القرآن
بالرزق الحسن. والذي نراه الآن هو ثورة حقيقية في عالم الصناعات الغذائية وتنوع
المنتجات التحويلية وآلاف المؤسسات والمصانع المختصة في هذا المجال والتي تجني
أرباحا طائلة من هذا النشاط.
6- النظام
الزراعي نظام متوازن :
يقول تعالى في سورة
الحجر : "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا
فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين وإن من شيء إلا
عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم". الآية (19-21 )
في كلمتي : موزون، وقدر معلوم هناك دلالة واضحة على أن النظام
الزراعي الذي يؤسسه القرآن هو نظام متوازن ومتكامل يقوم على التوسط والاعتدال في كل
مراحل الإنتاج ابتداء من الحرث والسقي إلى المداوات والتسميد والجني. فلا إفراط ولا
تفريط. فالتوازن هو الركيزة الأساسية لضمان النجاح والاستمرارية لكل نشاط
زراعي.
وها نحن نرى الآن
الاهتمام المتزايد بهذا النوع من الزراعة وهو ما يعبر عنه بالزراعة المستديمة أو
الزراعة البيولوجية. كما ارتفعت هذه الأيام أصوات حماة البيئة للحد من التلوث
والاستغلال المفرط لثروات الأرض. إذن فهذا النظام الزراعي له رؤية جديدة لزراعة
متطورة و متوازنة في الآن نفسه.
I- 2- آليات
النظام الزراعي في القرآن ومظاهرها الإعجازية :
يقول الله تعالى في سورة
عبس": فلينظر الانسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ثم
شققنا الأرض شقا فانبتنا فيها حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة
وأبّا متاعا لكم ولأنعامكم" الآية 21-31.
تبرز هذه الآيات العوامل
الأساسية والآليات التي يقوم عليها هذا النظام الزراعي وهي :
-
العوامل المناخية:" إنّا
صببنا الماء صبا: هنا إشارة إلى جل
التأثيرات التي تساهم في إنزال الغيث وهي الرياح، والسحب، الحرارة، التبخر...
فالآية الكريمة اختزلت كل هذه العوامل في نتيجتها الطبيعية وهي نزول
المطر.
-
عوامل التربة: ثمّ شققنا الأرض شقا: تشير الآية إلى دور التربة في
النظام الزراعي ككل وطرق الحرث وقلب الأرض.
-
النبـات: فأنبتنا.. وهذا العامل الثالث الأساسي لتحديد مدى نجاح
العملية الزراعية، ويشمل ظروف عملية الإنبات ونوع البذور المستعملة.
فهذه العوامل الثلاثة هي
التي تـحدد مدى نجاح أي عملية زراعية. فهي معادلة ذات ثلاث عناصر: المناخ، التربة والنبات. وهذه الحقيقة التي أقرتها هذه
الآية منذ 14 قرنا، تُدّرس حاليا في الجامعات في أساسيات علم الهندسة الزراعية.
فقبل إنجاز أي مشروع زراعي لا بد من دراسة العوامل المناخية لتلك المنطقة وتحديد
مصادر المياه وتحليل نوعية الماء ونسبة ملوحته. وتحليل التربة مع معرفة نسبة المواد
العضوية والمعدنية ونسبة نفاذيتها، وقوامها وحموضتها ونوعية الطين والرمل والطمث
ونسبهم في التربة. وعلى ضوء هذه المعطيات نقوم باختيار النبات المناسب والدورة
الزراعية المناسبة، ونوعية البذور.
وبعد ان ذكرت الآية
أصنافا كثيرة من الإنتاج النباتي، بينت مصير هذا الإنتاج: متاعا لكم ولأنغامكم" فهو
للإنسان ثم للحيوان الذي بدوره مسخر للإنسان ومصيره إليه. وفي تقديم الإنسان على
الحيوان في هذا الموقع حكمة بالغة وهي أنه يمكن للإنسان أن يستفيد من الإنتاج
النباتي بالقدر الذي يحتاج إليه ثم يعطي للأنعام مالا يحتاجه وهو ما يعبر عنه
بمخلفات الإنتاج النباتي كالتبن والنخالة التي يطرحها الإنسان ويأخذ القمح فقط،
وأيضا رديء الثمار ونوى التمر ورديء التمر وأوراق الخضروات وقشور الثمار وغيرها مما
يساهم مساهمة كبيرة في تغذية الحيوانات. ولا يوجد أي تعارض مع الآية الكريمة من
سورة السجدة التي يقول الله فيها
" أو لم
يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا
يبصرون الآية 27 هنا قدم الله الأنعام
على الناس. لأن هنا ذكر الله الزرع فقط ولم يذكر الثمار، فتغذية الأنعام تعتمد
بدرجة أولى على مخلفات الزرع والزرع ذاته، خاصة الشعير والذرة والفول والصوية في
حين أن غذاء الإنسان لا يعتمد على الزرع فقط بل على العديد من المنتوجات الأخرى من
بينها الأنعام ولحومها. وأيضا في تقديم الأنعام في هذا الموقع على الناس حكمة عظيمة
وهي أن هذا التقديم يفيد التأكيد : التأكيد على سنة كونية وقدسية المنهج الرباني في
هذا الكون: فالأنعام نظام غذائها نباتي وليس حيواني أو مختلط : الأنعام تأكل الزرع:
قانون كوني. لكن في هذه السنين الأخيرة، اخترق الإنسان هذه السنة الكونية وراح يطعم
الأنعام طحينا حيوانيا بحجة الرفع من مستوى الانتاج. فكانت النتيجة كارثية. فقد ظهر
مرض جنون البقر وتسبب في هلاك الملايين من رؤوس الماشية. لذلك عقب الله سبحانه، هذه
الآية بـ "أفلا يبصرون" أي اعتبروا أيها الناس
بهذا المنهج الرباني ولا تخالفوه.
- إذن إذا أردنا
تلخيص آليات النظام الزراعي في القرآن وكيفية عمله لقلنا:
- مناخ + تربة+
نبات = إنتاج نباتي = استهلاك إنساني
إنتاج
حيواني
فالإنتاج النباتي
والحيواني هما ركيزتا النظام الزراعي الذي يديره ويشرف عليه الإنسان كي يتمكن من
العيش وإعمال الأرض. ولمعرفة المزيد عن آليات هذا النظام الزراعي أود أن أقف على
العوامل التي تحدد الإنتاج النباتي لاستخراج كنوزها الإعجازية التي وردت في
القرآن.
1-
الماء والعوامل المناخية : قد بينا أن كل عملية
استصلاح زراعي مرتبطة بهذا العامل كمّا وكيفا
يقول الله تعالى في سورة
الملك: "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء
معين" : الآية 30
وفي هذه الآية أعجاز
كبير ففي هذه السنين ومع كثرة استعمال الآبار الارتوازية، نلاحظ أن ضغطها قد نقص
وبعد أن كان الماء يتدفق بصفة تلقائية بفعل قوة الضغط الداخلي، أصبح المزارعون
ينفقون أموالا طائلة وإمكانيات هائلة لاستخراج المياه بالمضخات. كما أن الدراسات
الحالية تشير إلى نقص في المخزون المائي بالموائد المائية في باطن
الأرض.
وهذا ما ورد أيضا في
سورة المؤمنون: وأنزلنا من السماء ماء بقدر فاسكناه في
الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون" الآية 18 فهذه الآية تلخص علما بأكمله يدعي
الـهيدروجيولوجيا الذي يعتني بالموائد المائية
وتـحركات المياه داخل الأرض وكميته ونوعيته.. أما الآيات التي اعتنت بنوعية المياه
فنذكر منها في سورة الواقعة"
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ {68}
َأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ {69} لَوْ
نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُون"
فنسبة الملوحة في الماء جد هامة ولها تأثير مباشر على
الإنتاج.
2-
التـربـة : أكد القرآن الكريم إن
الأراضي تختلف من نوع إلى نوع فقال تعالى في سورة الرعد (وَفِي
الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ
صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
(الرعد:4) ، ثم بين الله أن هذا
الاختلاف في نوعية التربة له تأثير مباشر على مستوى الإنتاج. فقال في سورة الأعراف
: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ
رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (لأعراف:58) .
لقد سما الله في هذه
الآية التربة بالبلد، وهذا قمة في الإعجاز. إذ أن التربة بمكوناتها وكائناتها الحية
تشبه البلد. فهي تحتوي على مليارات الحشرات الصغيرة وعلى مليارات الكائنات المجهرية
كالفطريات والبكتيريا التي تتغذى على المواد العضوية وتحولها إلى مواد معدنية في
إطار دورات جيوكيميائية: كدورة الأزوت والفوسفور
والكبريت، فهذه المصانع للتحويل تشتغل بدون انقطاع طيلة السنة. كما تحتوي التربة
على قنوات مياه السيلان والتبخر وتحتوي على الهواء والأكسجين للتهوئة وتحتوي على
مساكن تؤوي هذه الكائنات (حبيبات الرمل والطين والطمث). إذن بكل هذه الشبكات من
العلاقات والأنشطة الحيوية بين الكائنات ومحيطها تمثل التربة بلدا بأتم معنى
الكلمة.
وكما ان البلد يمكن أن
يكون متوازناً، متحضراً، تحكمه المبادئ والقيم كالعدل والحرية فينتج جيلا متحضراً
واقتصاداً راقيا وتقدما علميا رائعاً، او يكون مجتمعا جاهليّا، متخلفا، قمعيّا،
منحلا فينتج جيلا فاسدا خبيثا. كذلك التربة يكون نتاجها حسب الظروف التي تحكمها
ونوعية الكائنات التي تقطنها. فالإناء بما فيه يرشح. وهذا بحر زاخر من العلوم يسمى
بعلوم الايكولوجيا الحيوانية وايكولوجيا الأحياء الدقيقة، يدرس علاقة الكائنات
الحية بمحيطها وعلاقتها فيما بينها كما عبرت الآية الكريمة من سورة الأنعام عن هذا
المعنى الجليل: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)
(الأنعام:38)
وفي موضع آخر من القرآن
ضرب الله لنا مثلا رائعا في جودة الأرض والتربة ودورها المباشر في الرفع من مستوى
الإنتاج فقد قال الله تعالى في سورة البقرة:(وَمَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً
مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ
أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:265)
وقد
اختلف المفسرون في كلمة ربوة فمنهم من قال الأرض المرتفعة ومنهم من قال الأرض
الطينية.
وعلى كل حال فإن هذه
الأرض الطيبة إن توفرت لها كل الظروف الملائمة فهي تنتج ضعفين وإن كانت هناك بعض
المشاكل مثل نقص المياه فإنها تتمكن من إنتاجها العادي وهذا راجع إلى خصوبة تلك
التربة وغناها وقدرتها على الاحتفاظ بالماء.
وأختم موضوع التربة هذا
بإشارة إعجازية في سورة الرعد وهي قوله تعالى :(أَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ
زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ
أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد:17)
لقد
بينت الأبحاث و التجارب الزراعية ان الأراضي التي تقع بالقرب من الوديان ومصباتها
تكون خصبة وغنية (Terres alluviales). فهذا الذي
ينفع الناس هو إشارة إلى عامل (floculation
) وهو عبارة عن التصاق
حبيبات الطين مع جزيآت المواد العضوية بواسطة بعض المعادن مكونة بذلك ما يعرف باسم
(Complexe argilo-humique) الذي هو
أساس مصدر خصوبة التربة وغناها وقدرتها على احتفاظها بالماء. فالذي يمكث في الأرض
وينفع الناس هو هذا الجزء الهام من التربة الخصبة.
3-
النبات: إذن بعد تحري الأرض
الطيبة وتوفر الماء يأتي العامل الثالث وهو النبات وعملية الإنبات. وكما أن التربة
يمكن ان تكون طيبة أو خبيثة، فكذلك النبات يمكن أن يكون طيبا أو خبيثا. يقول الله
تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَار) الآية
27-28.
وقد
فسر بعض المفسرون الشجرة الطيبة بالنخلة والشجرة الخبيثة بالحنضل لكن المثل يبقى
عامّا.
ففي هذه الآيات بين الله
سبحانه صفات النبات الطيب: أصله ثابت أي جذوره ضاربة في الأرض وسليمة من الآفات كما
أن فرعها في السماء أي جهازها الخضري من أوراق وأغصان أيضا سليماً وينمو جيداً كما
أنها تثمر في وقتها ويكون ثمرها طيباً، بعكس النبات الخبيث تكون جذوره مجتثة فوق
الأرض فيكون ثمره خبيثا.
وفي هذا تلميح أيضا إلى
دور البذور في إنتاج الثمر. ونحن في عصرنا الحالي نشهد ثورة حقيقية في مجال إنتاج
البذور وتحسين الأصناف والمشاتل بواسطة الهندسة الجينية. وتصب كل الجهود في تحسين
الجودة في هذه العوامل الثلاثة: جذور سليمة ومقاومة للأمراض، جهاز خضري هام وثمار
جيدة وكثيرة. إذن فهذه مقومات النبات الطيب.
كما تحدث الله سبحانه
وتعالى عن آليات عملية الإنبات فقال في سورة الأنعام "إن
الله فالق الحب والنوى، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى
تؤفكون"96 فعملية الإنبات تمر أولاً بعملية الفلق ثم إخراج النبتة الحية من
البذرة الميتة. ويواصل الله سبحانه وصف هذه العملية في نفس السورة فيقول "وهو الذي انزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا
منه خضراً نخرج منه حبا متراكبا" الآية 100 إذن فعملية الإنبات مرتبطة
ارتباطا كليا بتوفر الماء، ومن هذا الماء أيضا يتكون الخضر، وهنا إشارة إلى اليخضور
(Chlorophylle) . فالماء
واليخضور مع وجود الضوء يكونان عملية التمثيل الضوئي التي هي أساس كل إنتاج نباتي.
فقد لخصت هذه الآية عمليات فسيولوجية جد معقدة داخل النبات.
إذن كانت هذه بعض
الملامح الإعجازية في آليات النظام الزراعي ويبقى المجال مفتوحا لمزيد من الفهم
والتدقيق.
I- 3- بعض
النواحي لتشريعية للنظام الزراعي في القرآن ومظاهرها الإعجازية :
يقول
الله تعالى في سورة الأنعام:"
وَهُوَ
الَّذِيأَنشَأَ
جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا
أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ
مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ
إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {141} الآية 142-
143
لقد بين تعالى أنه هو
الذي أنشأ هذه الجنات والبساتين، إذن فهو الصانع الحقيقي، والصانع أدرى بصنعته
وأحكامها وتشريعاتها. بعد هذا التذكير، شرّع الله بعض الأحكام التي تتماشى مع هذا
النظام الزراعي والتي من شأنها أن تحفظه من الهلاك والاضمحلال وتضمن نجاحه
وديموميته وفاعليته. فبعد هذا النداء ولفت الانتباه، أمر الله عباده بخمسة أوامر
تشريعية فيها من البلاغة والإعجاز ما يدعو للتبصر والاعتبار.
1-
كلوا من ثمره إذا أثمر : أي أن الأكل لا يكون
إلا عند تمام النضج والإثمار، فقد أثبت العلم الحديث ان القيمة الغذائية للثمرة لا
تكون متوازنة إلا عند اكتمال النضج. فهناك من التفاعلات الكيميائية والإفرازات
والتحولات الأنزيمية من لا تتم إلا بتمام النضج نذكر منها بالأخص زيادة نسبة
السكريات عند تمام النضج. كما ان في هذا التشريع صيانة للمحصول من الغش والاحتكار
من طرف التجار لأن الثمار في أول وقته يكون ثمنه أغلى.
2-
آتوا حقه يوم حصاده: حقه يعني
زكاته كي يبارك الله لنا في هذه النعم ويحفظها من الزوال وتزيد وتنمو. وفي هذه
الزكاة فوائد اجتماعية واقتصادية يطول شرحها وفي قصة أصحاب الجنة في سورة (ن) عبرة
كبيرة لمانعي الزكاة. ودعني أتوقف هنا قليلا عند "يوم
حصاده" لأن الثمار سريعا ما تتلف خاصة التي تحتوي منها على نسبة عالية من
الماء. وهناك العديد من العمليات والتفاعلات البيوكيميائية التي تحدث في الثمرة
التي من شأنها أن تنقص من قيمتها الغذائية أو تقود إلى اتلافها بالعديد من الحشرات
أو الفطريات. فكي تكون زكاة طيبة أمرنا أن نسرع بإخراجها قبل إتلافها. وفي هذا
الإسراع أيضا إشارة إلى توفير تكاليف الخزن، ففي يومنا الحاضر صار هذا النشاط ذو
أهميّة اقتصادية كتقنيات التبريد والتكييف والتعبئة واللف وغيرها. وهناك عدة عوامل
تتحكم في عملية الخزن: كالحرارة والرطوبة والتهوئة وصارت هذه التقنيات علما قائما
بذاته.
3- ولا تسرفوا: هناك من المفسرين من قال في الأكل
وهناك من قال إن الأمر عام في كل شيء وهذا أقرب للصواب. ولنذكر في هذا السياق بعض
مظاهر الإسراف في النظام الزراعي
"
الاسراف في الأكل: وما ينجر عنه من امراض
وتبلد الطبع.
"
الإسراف في الأسمدة واستعمالها: لأن ذلك يحدث اضطرابات
فسيولوجية للنبتة ويتسبب في تلوث البيئة والمياه مثل مادة النيترات التي أصبحت
تـهدد المياه الباطنية والسطحية.
"
الإسراف في استعمال الأدوية والمبيدات: تسبب في تلوث التربة
والمياه والهواء بهذه السموم القاتلة. كما ان الثمار صارت مسمومة بهذه المواد مما
أدى إلى ظهور العديد من العوارض والأمراض نتيجة هذا الاستعمال المفرط للمبيدات. كما
إن الإسراف في استعمال هذه المواد أدى إلى نقص المناعة الذاتية للنبات واكتساب
الحشرات الضارة مناعة قوية ضد بعض المبيدات مما يستوجب استعمال مبيد آخر أكثر سمية
وأغلى ثـمنا ومن ثم الدخول في حلقة مفرغة تنهك المزارع من حيث المجهود والإنفاق :
مبيد مناعة مبيد
آخر مناعة أقوى ........
كما أن الاستعمال المفرط
للمبيدات يؤدي إلى إبادة كلية للحشرة الضارة وبالتالي إلى إبادة الحشرة المفترسة
فيختل التوازن البيئي بين هذه الكائنات.
لذا فإن الاستراتيجية
العلمية الحديثة لمكافحة الحشرات تعتمد على الحد من المداوات الكيميائية وتعويضها
بالمكافحة المندمجة حيث تلعب المكافحة البيولوجية دوراً هاماً. وفي هذا المجال ظهرت
مدارس بأكملها متخصصة فيما يسمى بالزراعة البيولوجية للحصول على منتوج طبيعي غير
ملوث بالمبيدات والأسمدة.
"
الإسراف في السقي: يؤدي إلى تعفن الجذور
والتربة وتؤخر موعد النضج وانتشار الأوبئة والحشرات الضارة. وهنا أشير إلى تطور
وسائل الري التي تمكن من الاقتصاد في المياه مثل الري قطرة قطرة الذي يوفر نصف كمية
المياه المستعملة للري.
"
الإسراف في استعمال الآلات الميكانيكية والآليات الثقيلة: لأن ذلك يسبب ضغط
التربة خاصة عندما تكون مبللة. ونذكر أيضا أن كثرة الحرث والإسراف فيه يؤثر على
قوام التربة ويعرضها لكثر الانجراف ويكوّن طبقة من التربة غير نافذة للماء تؤثر
سلبا على نمو النبات.
"
الإسراف في الاهتمام بكمية الإنتاج على حساب نوعية المنتوج: وأقصد هنا المحاصيل
المعدّلة جينياً وما يمكن أن تسببه من كوارث بيئية وصحية. فقد ثبت في علم الجينات
أن تطوير الجين المسؤول على كمية الانتاج يؤثر سلبا على جينات المقاومة للحشرات أو
نقص المياه أو الملوحة.
إذن في هذه الدعوة من
المشرّع لعدم الإسراف رؤية جديدة لزراعة متطورة ومتوازنة في نفس الوقت.
4-
كلوا مما رزقكم الله: كرر الله سبحانه دعوته
عباده للأكل بعد أن ذكر الأنعام وأن منها ما يركب ومنها ما يفرش للذبح كما أورده
المفسرون في قوله (حمولة وفرشا) داحضا بذلك مزاعم من حرّموا أكل اللحوم. وتجديد
النداء للأكل هنا ليس من باب الصدفة أو العبث حاشا لله، إنما فيه إعجاز من نوع جديد
وهو الإعجاز الغذائي. فقد دعانا أولا إلى أكل النبات، وثانيا إلى عدم الإسراف
وثالثا إلى أكل الحيوانات. وبهذا يكون القرآن الكريم قد أسس لعلم التغذية الذي يشهد
تطورا ملحوظا هذه الأيام وما نراه من أمراض وآفات جراء سوء التغذية. فخلاصة التغذية
السليمة في القرآن تعتمد على التوازن بين الاستهلاك النباتي والحيواني وعدم
الإسراف. وهذا ما توصلت إليه الأبحاث الأخيرة في علم الطب. فالجسم بحاجة إلى كلا
الجنسين من الأطعمة النباتية والحيوانية لأن كليهما يختص بأنواع محددة من الحوامض
الأمينية والحوامض الدهنية الأساسية، والفيتامينات والمعادن وغيرها.
وأيضا في تحريم بعض
الأطعمة مثل الميتة والدم ولحم الخنزير فوائد صحية وغذائية جد هامة، لذا قال الله"
مما رزقكم الله" فما لم يحله الله في الأكل فهو يضر بصحة الإنسان مثل الخمور
أيضا.
5-
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين: وللشيطان لعنه الله
أبواب كثيرة وخطوات كثيرة في المجال الزراعي لابد من الابتعاد عنها كي ينجح النظام
الزراعي ويستمر، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
- تربية
الخنزير
- زراعة المخدرات
والدخان وعنب الخمور وما ينجر عنها من كوارث صحية واجتماعية وأخلاقية.
- التعامل بالربا
لتمويل المشاريع الزراعية. وهذه الطامة الكبرى التي دخلت مجتمعاتنا الإسلامية وقضت
على الأخضر واليابس من اقتصادنا. الكثير من السياسات الزراعية في أوطاننا قد أخفقت
إخفاقا مشينا بسبب هذه القروض الربوية. وهي خطوة خبيثة من الشيطان لفتح باب الحرب
مع الله ورسوله:" فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله" البقرة الآية 278.
فالحذر ، الحذر من هذه الآفة الخطيرة وبهذه المناسبة أدعو الميسورين من هذه الأمة
وأصحاب الأموال الطائلة إلى غلق هذا الباب الشيطاني وفتح باب من أبواب الله وهو
القرض الحسن، لتشجيع الشبان والمحتاجين للاستصلاح الزراعي في إطار شرعي بعيدا عن
الربا وعن خطوات الشيطان.
-
تغيير خلق الله: كما قال تعالى على لسان
الشيطان في سورة النساء: (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ )(النساء: من الآية119) الاية 118 .
مثل قضية الاستنساخ
الحيواني والبذور المعدلة جينيا وما فيها من آثار سلبية على التنوع البيولوجي
والتوازن البيئي. فالعديد من الحيوانات والنباتات باتت مهددة بالانقراض بسبب
الانجراف الجيني.
I- 4- الأبعاد
الروحية للنظام الزراعي في القرآن والسنة:
* اعتبار العمل الزراعي
عبادة ووسيلة لمرضات الله قبل كل شيء وطاعة لأمر الله سبحانه وتعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها وكلوا من
رزقه وإليه النشور" الملك 15 وفي الحديث : من غرس
شجرة، فأكل منها إنسان أو طير أو حيوان إلا كانت له صدقة. أو كما قال صلى الله عليه
وسلم (الحديث)
*التأكيد على شرف العمل
الزراعي وديموميته إلى يوم القيامة. في الحديث: إذا قامت
الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها، فالرسول صلى الله عليه وسلم له رؤيا استشرافية
ثاقبة للمستقبل فقد حثنا على إعمار هذه الأرض وعدم الاستسلام إلى اليأس والتواكل
والكسل حتى في أصعب الأوقات وأحلكها وهي القيامة.
* في وصف الله البساتين
والجنان وما فيها من أثمار وأنهار وبهجة للناظرين، إنّما يلفت أنظارنا إلى الجنة
الأخروية ونعيمها الدائم. فجنان الدنيا زائلة لا محالة، ولا يداني حسنها مهما عظم
أدنى جنان الجنة الأخروية.
فمن لم يكسب جنة في
الدنيا فبإمكانه اكتسابها في الآخرة بعمله الصالح وتقواه. "من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث
الدنيا نؤته منها" الشورى 18
قل
أؤنبؤكم بخير من ذلكم للذين التقوا عند ربهم جنات ...." آل عمران 15
* علينا أن لا نتكبر ولا
نغتر إذا رزقنا الله البساتين والجنان في الدنيا، فتكون عاقبتنا الخسران كصاحب
الجنة الذي قص الله قصته في سورة الكهف:" ودخل جنته وهو
ظالم لنفسه.." الآية 34، بل علينا ان نتواضع ونحمد الله على
نعمه.
* علينا ان لا نركن إلى
هذه الجنان أو الحقول أو الضياع، فالكل زائل ولا يبقى إلا وجه الله:" كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك، ذو الجلال والأكرام"
(الرحمان 24-25)
"إنما مثل
الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس
والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها
أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس" يونس 24.
هذا التشبيه بين الحياة
الدنيا والزرع نجده في العديد من السور: الفتح، الحديد، الكهف... فالدنيا تغر كما
يغر الزرع ببهجته واخضراره وهي أيضا سريعة الزوال كالزرع الذي يصير حطاما وتنطفئ
زينته. وفي هذا تحذير من الركون إلى الدنيا أو الاطمئنان إليها، والالتجاء إلى الله
دائما وأبدا والتضرع إليه.
* إلى جانب النظام
الزراعي الحسي واستصلاح الأراضي وإحيائها، يشير القرآن الكريم إلى نظام زراعي آخر
روحي، في ذات الانسان يقول الله تعالى في سورة الأنعام (أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122)
. فكما أن عملية الإحياء
في الإنتاج النباتي تتطلب عنصرين وهما الماء والنور للقيام بعملية التركيب الضوئي
التي هي الوسيلة الوحيدة لنمو النبات وإثماره ، فكذلك يتم إحياء قلب الإنسان الذي
هو كالبذرة في وسط الأرض بماء الإيمان ونور العلم فينمو زرعه الذي هو عمله الصالح
ويثمر المقامات الشريفة كالتقوى والورع والخوف من الله ورجاؤه، والصبر والشكر
والمحبة والرضى وغيرها. "إن الله فالق الحب والنوى يخرج
الحي من الميت ومخرج الميت من الحي" وبالتالي يحيى المؤمن بين الناس كزهرة
في بستان من الأنوار والأثمار. وقلب الكافر والعياذ بالله كصحراء ظلماء مقفرة ليس
فيها لا ماء ولا نور ولا حياة. ومهما أظهر الكفار من ارتقاء مادي وترف في وسائل
العيش ورفاهية فهم لا يشعرون بتلك الطمأنينة وتلك السعادة الروحية ولذة العيش مع
الله وبالله، فهم كالأنعام بل هم أضل.
في الأخير أريد أن أشير
إلى مقاربة لطيفة ذكرها الإمام الغزالي في كتابه أحياء علوم الدين وهي تعاطي
الأسباب والتوكل على الله في كل الأعمال الدنيوية والأخروية. فكما أن المزارع يشق
الأرض ويبذر ثم يتعهده ويسقيه حتى ينمو ثم يتوكل على الله في نتيجة المحصول، فكذلك
المؤمن عليه أن يتخذ كل أسباب الطاعة من عمل صالح وتوبة وعبادات ثم يتكل على رحمة
الله ولا يقول الله غفور رحيم ويترك العمل، فمن زرع حصد.
I- 5-
خـــاتـــمــــة:
إذن كانت هذه مجرد
إشارات وهوامش وايحاآت أوحتها لنا هذه الايات الكريمات لتصوغ لنا نظاما زراعيا
متكاملا ومتوازنا فيه من الإعجاز ما يعجز عنه القلم ويخرس له اللسان ويخشع له
الجنان. ولو خصصنا آلاف الصفحات والمجلدات ما أدّينا حقها وما استوفينا معانيها.
كما قال تعالى :" قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات
ربي ولوجئنا بمثله مددا" الكهف.
فنكتفي في هذه الورقات
بهذه الإشارات ورب إشارة أبلغ من عبارة. وفي الختام أجدني مضطرا لأختم هذه الخاتمة
بإشارة أخرى من هديه صلى الله عليه وسلم وهي حادثة التأبير المشهورة. فقد نهى
الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة عن تأبير النخيل، فلما لم تنتج التمر وسألوه
عن ذلك قال : أنتم أدرى بشؤون دنياكم. وفي هذا دلالة واضحة على أهمية اكتساب الخبرة
ودور التجارب الميدانية والأبحاث العلمية في النهوض بالنظام الزراعي. فهذه الواقعة
يعبر عنها في علم المنهجيات بالخطأ التعليمي، وهي منهجية علمية معتمدة كثيرا في
التجارب الزراعية وعلم الإحصاء الحيوي : أي نفرق بين مقسم شاهد ومقسم معالج لنصل
إلى نتيجة علمية. وبهذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أوّل المؤسسين للمنهج
التجريبي وأوّل من دعى إلى إعتماد البحث العلمي لتطوير النظام الزراعي.
"سنريهم
آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" فصلت 52.
الجزء
الثاني : محاولة لصياغة الأشكال التطبيقية لنظام زراعي خاص بالبيئة
الصحراوية يستمد قواعده الأساسية من القرآن الكريم
I-
1مـــدخـــــل
بعد التعرف على مقوّمات
النظام الزراعي في القرآن والسنة ووضوح ملامحه و معالمه ارتأينا أن نخرج هذه الرؤيا
العامة من عالـمها النظري إلى واقعها التطبيقي. فالعلم النافع في الإسلام ليس العلم
من اجل الترف المعرفي فقط بل هو الذي يلازمه العمل كما هو الشأن بالنسبة للعالم
الغربي المتقدم الذي نجح في تحويل النظريات العلمية إلى تكنولوجيا، كانت ولا تزال
قوام نهضته .إذن فما هي مجالات وحدود تطبيق هذا النظام الزراعي العام على أرض
الواقع.
فمن موقعي كمهندس زراعي
متخصص في الزراعة الصحراوية، وبـما أن معظم الأراضي العربية تقع في المناطق
الصحراوية وشبه الصحراوية. ارتأيت أن أوجه اهتمامي حول هذه البيئة الجافة، خاصة وان
القرآن الكريم والسنة النبوية أولوا اهتماما بالغا بالنخيل الذي هو الميزة الأساسية
لهذه المناطق. كما نلاحظ أن جل الآيات التي قدمناها في الجزء الأول من هذه الدراسة،
ذكر فيها النخيل كركيزة أساسية للنظام الزراعي العام.
إن معظم أراضي الوطن
العربي تزخر بثروات مائية جد هائلة وسواعد قوية ماهرة غير أن هذه الأوطان تشكو حدة
الجوع والفقر وعدم الاكتفاء الذاتي الغذائي ولا تزال تستورد قوتها من وراء البحار
مما يهدد أمنها وسيادتها وحريتها…. وهذا يفسر تبيعتها للغرب في شتى المجالات
السياسية والاقتصادية والاجتماعية….وقد قيل :"السلاح الأخضر أقوى سلاح ومن أمتلكه
ربح المعركة".والوطن العربي مؤهل أكثر من غيره أن يمتلك هذا السلاح، فكل العوامل
متوفرة: الأرض، الماء، اليد العاملة .... لكن شريطة وجود إرادة صادقة وعمل جدي
متواصل لكسب هذا الرهان، وهنا ومن باب التفاؤل لابد من التذكير بقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم:" لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب جنات وعيون"
فالإنسان العربي منذ
القدم دأب، بكل ما توفر لديه من وسائل مادية وتجارب ميدانية على تحقيق هذه الغاية،
وكذلك في عصرنا هذا هناك عدة محاولات قيمة للاستصلاح الزراعي وتعمير الأراضي خاصة
بعد ظهور التقنيات الفلاحية المعاصرة مثل الرش المحوري.
لكن يبدو أن طريقة
إدخال هذه التقنيات لم تكن بصفة مدروسة ولم تراع خاصيات البيئة الصحراوية مما أدّى
إلى ظهور العديد من المشاكل التقنية والعوائق الاقتصادية.
فهذه الدراسة تعتبر
محاولة لإعطاء نفس جديد لطريقة الاستصلاح الزراعي بالصحراء في إطار نظام زراعي جديد
ومتكامل يوازن بين الخاصيات البيئية للمنطقة ومتطلباتها السوسيو اقتصادية من جهة
وبين التقنيات الفلاحية الحديثة من جهة أخرى ويستمد قواعده الأساسية من القرآن
الكريم والسنة المطهرة. وقد ارتأينا أن نطلق على هذا النظام الزراعي اسم جنان
الصحراء.
2
II- المقومات
الأساسية للنظام الزراعي المقترح : جنان الصحراء
من أهم الخصائص التي
تميز هذا النظام الزراعي أنه يستمد مبادئه الأساسية من القرآن الكريم ولا أتجوّر أن
أقول بأنه التفسير القطعي والحقيقي للقرآن، إنما هو استقراء وإيحاء من بعض الآيات
القرآنية التي من خلالها انطلقنا لإرساء القواعد العامة لهذا النظام الزراعي الجديد
وهنا أركز على كلمة "جديد" لأنه في الحقيقة لم يسبق وجود مثل هذا النظام الزراعي لا
نظريا ولا تطبيقيا. ونحن في مرحلة أولى سوف نقوم بالتنظير لهذا النظام وأسسه
ودراسته دراسة موضوعية دقيقة على أن يتولى أصحاب القرار والمستثمرين في القطاع
الفلاحي تجسيده ميدانيا على ارض الواقع.
يقول الله جل وعلا في
سورة الرعد:" وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب
وزرع ونخيل" صدق الله العظيم
جاءت هذه الآيات لتبين
طبيعة الاستصلاح الزراعي وترسم الملامح العامة لنظام زراعي شامل ومتكامل خاص
بالبيئة الصحراوية حيث العوامل جد قاسية، فأقرت هذه الآيات بأن هذا النظام يتكون من
ثلاثة عوامل أساسية النخيل، الزرع، الأعناب. في الآن نفسه تمثل هذه الزراعات نسيج
ايكولوجي رائع متكون من ثلاثة طبقات نباتية مختلفة:
1) الزرع
: الطبقة العشبية
2) الأعناب
: (أو الأشجار المثمرة
بصفة عامة) الطبقة الجنبية
3) النخيل
: الطبقة
الشجرية
لكن هذه الآية لم تبين
طريقة ترابط هذه الطبقات الثلاثة ولا العلاقة التفاعلية بينها فجاءت الآيات 32/33
من سورة الكهف لتبين مواقع هذه الطبقات الثلاثة وتصوغ الملامح النهائية لهذا النظام
الزراعي المتكامل في إطار من التدرج المنطقي والانسجام الإيكولوجي لا مثيل لهما في
أي نظام زراعي آخر.
واضرب لهم مثلا رجلين
جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت
أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا.
أقرت الآية بأن النظام
الزراعي المقترح يتكون أساسا من جنتين من أعناب (الطبقة الجنبية) يحيط بها النخيل
(الطبقة الشجرية) ، وبين هاتين الجنتين الزرع (الطبقة العشبية). كما بينت الآية
الكريمة النتيجة الحتمية لهذا الترابط بين الطبقات النباتية الثلاثة وهي الرفع من
مستوى الإنتاج (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه
شيئا) أي أنه لا يوجد خسائر في الانتاج نتيجة توفير كل العوامل الملائمة
لإنتاج جيد كمّا وكيفا.
II -3- الفوائد
والتأثيرات العامة لهذا النظام الزراعي
يعد هذا النظام الزراعي
تركيبة نباتية فريدة من نوعها لها فوائد وتأثيرات جد ايجابية على مستوى المناخ
والتربة مما يساهم مساهمة فعالة في الرفع من مستوى الإنتاج من ناحية وتحقيق التوازن
الأيكولوجي لجميع الكائنات المتواجدة بهذه المنطقة.