الكذب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي النبي الأمين وبعد..
الكذب آفة عمت بها البلوى , ويندر أن تجد إنساناً صادقاً مائة في المائة فالكذب صار سمة هذا العصر لكثير من العباد إلا من رحمه الله تعالى , والناس التي تمارس الكذب لها معاذير أقبح من الذنوب .
يقولون الكذب يفتح لك الأبواب المغلقة , ويقولون بالكذب تقضى مصالحك وتمشي أمورك . ويقولون الكذب وسيلة لا تضر للتخلص ممن لا تريد وهكذا!!
وهم من أجل ذلك جعلوا للكذب ألوان .. فهذه كذبة بيضاء وتلك سوداء والأبيض حلال في رأيهم ما دام لا يسبب ضرراً . والله سبحانه وتعالى يقول :-
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ { ( التوبة 119 ).. ويقول أيضاً جل وعلا : } هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ { ( المائدة 119 )
فالصدق إذا ينفع يوم القيامة وينجي صاحبه من النار . . فماذا لو كنت أنت من أهل الكذب , ماذا تقول لله رب العالمين . ما هي حجتك ؟ وما هو عذرك ؟ وكيف يكون جوابك ؟!
ألم تقرأ قوله تعالى :- ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ( ق 18 ).
أليس تعلم قول النبي e : ( إن الصدق يهدي إلى البر , وإن البر يهدي إلى الجنة ’ وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار , وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )
واعلم أن الكذب من علامات المنافق كما أنه مهانة للمرء , ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد كان يمزح ولكن لا يقول إلا حقا.ً
- وعن أبي هريرة قال:( قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال إني لا أقول إلا حقا)- ومن مزاحه صلي الله عليه وسلم ما جاء عن أنس بن مالك قال :
(أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني حاملك على ولد الناقة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تلد الإبل إلا النوق )
وحذار من المزاح الذي يتخلله الكذب في القول من أجل الضحك والسخرية من عباد الله للترهيب الشديد في ذلك فقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم إنه قال:-
( ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له ) ولله در القائل :
لا يكذب المرء إلا مهانته أو فعله السوء أو قلة الأدب
لبعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جد وفي لعب
لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرخص للآمة في الكذب في ثلاثة أحوال فقط ومن رحمة الله بعباده وحتى لا تتعطل مصالحهم ويضرون أنفسهم شرع على.
1- كذب الرجل في الحرب .
2- كذب الرجل على زوجته لإصلاح شأنها .
3- وسلم (الكذب في الإصلاح بين المتخاصمين وإليك الدليل وشرحه .
روي البخاري ومسلم عن أم كلثوم رضي الله عنها .. قال صلى الله عليه
ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً وزاد مسلم في رواية له ( قالت أم كلثوم : ولم أسمعه يرخص في شئ مما يقول الناس إلا في ثلاث ..
تعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها) النووي في شرح الحديث : ( اختلفوا في المراد بالكذب المباح في هذه المواضع الثلاثة ’ فقال قوم : هو على إطلاقه , وأنه يباح الإخبار بما لم يكن أنه كان , وقال آخرون منهم الطبري :-
لا يجوز الكذب على معناه الحقيقي في شئ من ذلك أصلاً وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية , واستعمال المعاريض , لا صريح الكذب مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها , ويكسوها كذا ,وينوي إن قدر الله . يعني يأتي بكلمات محتملة . يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه , وإذا سعى في إصلاح ذات البين نقل عن كل فريق للآخر كلاماً جميلاً , وكذا في الحرب كقوله , مات قائد العدو , وينوي قائدهم إلى الهزيمة , أو إلى النار , وأما الكذب على الزوجة وكذبها على زوجها , فالمراد به إظهار الود, والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك , فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها, أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بالإجماع .
وبمناسبة الكلام عن التعريض والتورية قد تسأل هل يجوز ذلك وكيف ؟ والإجابة من كتاب " الأذكار " للنووي رحمه الله تعالى قال ما ملخصه :-
( اعلم أن هذا الباب من أهم الأبواب , فإنه مما يكثر استعماله, وتعم به البلوى , فينبغي أن نعتني بتحقيقه ثم قال : اعلم أن التورية والتعرض معناهما : أن تطلق لفظاً هو ظاهر في معنى وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ , لكنه خلاف ظاهره , وهذا ضرب من التعزيز والخداع . قال العلماء : فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خدع المخاطب أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب فلا بأس بالتعريض , وإن لم
يكن شئ من ذلك فهو مكروه وليس بحرام إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق , فيصير حينئذ حراماً . وروى بعض الآثار في ذلك منها :- قال النخعي : لا تقل لابنك أشترى لك سكراً , بل قل : أرايت لو اشتريت لك سكراً . – وكان إذا طلبه رجل قال للجارية : قولي له اطلبه في المسجد , وقال غيره : خرج أبي في وقت غير هذا . – وكان الشعبي يخط دائرة ويقول للجارية : ضعي اصبعك فيها , وقولي : ليس
هو هاهنا , ومثل ذلك قول الناس في العادة لمن دعاه لطعام : أنا على نية موهماً أنه صائم ومقصوده على نية ترك الأكل )
وغير ذلك من أنواع التعريض المباح بالتوضيح الذي ذكره الإمام النووي , رحمه الله تعالى فحذار من الكذب بما لم يبيحه الشرع
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .