1- إذا أُحِيل مفهوم "اليسار" على كافَّة اللُّغات، لمَا كان الأمْرُ سارًّا؛ فهو في "اللاَّتينيَّة" يَعني "التَّشاؤم وسوء الحظ"، وفي "الإنجليزية" يُعطي نفْسَ المعنى تقريبًا، وفي "الفرنسيَّة" يعني التَّشْويه والانحراف، وفي "العربية": "اليسار" نقيض "اليمين"، ويعني كل ما يؤدِّي إلى التَّشاؤم أيضًا، ويُكنى به عن المنْزلة الخَسِيسَة. وعلى مستوى "القيم" لا يَعني "اليسارُ" إلا القِيَمَ الشاذَّة المنحرِفة.
2- "اليسار" مفهوم غامض في نشْأته - كما يقول "بيكلز" في قاموس العلوم الاجتماعية - بدأ استخدامه على المستوى السياسي في الخامس، ثم الثالث والعشرين من شهر يونيو عام 1789 في فرنسا.
3- يرجع أصل هذا المفهوم إلى الثورة الفرنسية عندما جلس النواب الليبراليون الممثلون لطبقة العامة أو الشعب على يسار الملك لويس السادس عشر في اجتماع لممثلي الطبقات الثلاث للشعب الفرنسي عام 1789 وكان النواب الممثلون لطبقة النبلاء ورجال الدين على يمين الملك في ذلك الاجتماع المهم الذي أدى إلى سلسلة من الإضرابات والمطالبات من قبل عامة الشعب وانتهى إلى قيام الثورة الفرنسية. ولازال هذا الترتيب متبعا حتى اليوم في الجلوس في البرلمان الفرنسي.
4- استخدم الحزب الشُّيُوعي في روسيا مفهوم اليسار في عام 1918، على يد جماعةٍ رأَسَها "نيكولاي بوخارين"، تدعو إلى شنِّ الحرب الثَّوْرية على سياسة "لينين"، وإلى قيادة البروليتاريا للاقتصاد، ورقابتها على المشروعات الصناعية.
5- عرَّف "كولا كويسكي" اليسار بأنه حركة نفْيٍ للعالَم القائم، أما "كارلأوجنسي" فرآه الرغبةَ في التقدُّم، والإيمانَ بأن الإنسان سينتصر في النهاية. وتُعتبر فكرة " الثورة وتغيير الأوضاع" أوَّلَ فكرة يرتبط بها مفهوم اليسار.
6- جاء في موقع المعهد العربي للدراسات السياسية والإستراتيجية الآتي:
أ- اليسار مصطلح يمثل تيارا فكريا وسياسيا يتراوح من الليبرالية والاشتراكية إلى الشيوعية مرورا بالديمقراطية الاجتماعية والليبرالية الاشتراكية.
ب- بمرور الوقت تغيرت وتعقدت وتشعبت استعمالات مفهوم اليسار بحيث أصبح من الصعوبة بل من المستحيل استعماله كمفهوم موحد لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار، فاليسار في الغرب يشير إلى الاشتراكية أوالديمقراطية الاجتماعية (في أوروبا) والليبرالية (في الولايات المتحدة)،من جهة أخرى فإن اليسار في الأنظمة الشيوعية يطلق على الحركات التي لا تتبع المسار المركزي للحزب الشيوعي وتطالب بالديمقراطية في جميع مجالات الحياة. هناك مصطلح آخر ضمن السياق العام لليسار ويسمى اللاسلطوية (الأناركية أوالفوضوية)، والذي يمكن اعتباره أقصى اليسار أو اليسارية الراديكالية.
ج- هناك جدل بين اليساريين أنفسهم حول معنى اليساري، فالبعض يرفض رفضا قاطعا أي صلة لليسار بالماركسية والشيوعية واللاسلطوية، بينما يرى البعض الآخر أن اليساري الحقيقي يجب أن يكون شيوعيا أو اشتراكيا. وبينما يعتبر الكثيرون النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق والصين أثناء حكم ماوتسي تونج تيارات يسارية، فإن البعض الآخر يرفض ذلك على اعتبار أن الشمولية التي كانت موجودة في أنظمة الحكم هذه كانت تتبع سياسة قمعية. ويمكن القول بصفة عامة أن اليسار السياسي يختلف عن اليمين بتبنيه للحريات الشخصية والعلمانية والعدالة الاجتماعية.
7- حدَّد "بيكلز" خصائصَ مصطلح اليسار في الآتي:
أ- الرَّغْبة في التغيُّر السريع إلى أقصى حدٍّ ممكن.
ب- الاعتقاد في حتْمية العنف كمنهج للتغيير.
ج- التأكيد على مفهوم الإنسانية.
د- رفْض الدِّين، والتأكيد على عدم تدخُّله في الفعل السياسي، والقرارات السياسية، ومجال الرقابة على التعليم. كان اليسار منذ بداياته معارضا لتدخل الدين في الشؤون السياسية وعندما برزت نظريات تشارلز داروين على السطح قام اليسار بدعمها بقوة.
هـ- حماية المجتمعات المتقدِّمة - وخاصةً الاشتراكية منها - من الفساد الذي يترتَّب على احتكاكها بالمجتمعات الأقل تقدُّمًا أو الأقل اشتراكيةً.
8- في شتاء 1996 كتب "مايكل والزر" في دورِيَّة "المعارضة الماركسية" معدِّدًا الانتصارات التي كَسَبها اليسَار منذ الستِّينيات من القرن الماضي في الآتي:
1- التأثير الظاهر للحركة النسوِيَّة على المجتمع.
2- الظهور العلَنِيُّ لسياسات حقوق الشَّواذِّ، واهتمام وسائل الإعلام بذلك.
3- التحوُّلات التي أدت إلى تدمير الحياة الأُسَرية، وكذلك التحولات في الأعراف الجنْسيَّة المتغيِّرة، وارتفاع معدَّلات الطلاق، وتغيُّر توزيع الأدوار داخلَ المنْزل، وإبراز وسائل الإعلام لذلك.
4- ذُبول الدِّين وتقَدُّم العلمانية بصفة عامة، والنَّصرانية بصفة خاصة، وظهور آثارِ ذلك على المستوى العام، وفي حُجُرات الدِّراسة، والأحكام القضائية، والأعياد... إلخ.
5- التأكيد على شرعية الإجهاض.
9- في معظم دول الشرق الأوسط يأتي اليسار مرادفا للعلمانية، واليسار العربي الآن في وضع أشبه بالانهيار. ويصف الباحثون وضع اليسار العربي اليوم بقولهم: "لقد فقد اليسار العربي هويته وأصبح عاجزا عن إعانة مستخدِميه، بعد أنْ بات هيكلاً أجوفَ، لا يُبقيه على قيد الحياة في شكْلِه المتوارَثِ على الأقلِّ - سوى "قلَّةِ الموت"؛ بل "قلَّة النقد" .....إنَّ مَن يدقِّق النظرَ يجد أنَّ مفهوم "اليسار" - بمعناه القديم على الأقلِّ - قد أصبح عديمَ الفائدة، ولم يعُدْ أداةً للفهم، هذا إذا كان يومًا كذلك.......لقد اكتفى اليساريون العرب بحَرْق أحجار "الجوزة"، وتلويث الهواء بدخان "الشيشة"، والانزواء في المقاهي لـ"الثَّرثرة" وحَقْن الأوردة بـ"أفيون" التضخيم الفارغ، والاستسلام الكامل للغيبوبة، فالواقع بالنسبة إليهم قد بات أكثرَ مما يُحتمل.
إن اليسار العربي ليس إلا جيشًا يَعتنق مذهبًا مكابِرًا، لا يَرى في الهزيمة سِوى انتكاسةٍ، أو ربَّما تمهيدًا لنصْرٍ يساريٍّ اشتراكي قادمٍ لا ريْب فيه، رغم كلِّ شيء، ولا يفكِّر أبدًا في إعادة النظر في المفاهيم التي ورِثها جاهزةً عن الأوَّلين لتُدِرَّ عليه مايتصوَّر أنه المعرفةُ الأكيدةُ المطمئنَّة....... لقد بلغتْ قُوى اليَسار العربيِّ السَّابق مرحلةً متقدِّمةً مِن التحلُّل بعد أن فَقدتْ تماسكَها الداخليَّ، وراحت تخْسر كُتْلتَها لصالح قُوَى جذبٍ أخرى، هي القوى التي تمثِّل أحدَ المشروعين المتصارعين في المنطقة: المشروع الأمريكي، والمشروع المناهض له، والذي يَغْلب عليه الطابعُ الإسلامي".
:(الألوكة).