يان حقائق و دحض مزاعم في مسألة رضاع الكبير
د . أبو بكر خليل
ثارت
من جديد في مصر و في غير مصر مسألة رضاع الكبير – ليس من ناحية اعتباره أو عدم
اعتباره في ثبوت المحرمية – و لكن من ناحية التشكيك في وقوعه ، و في صحة حديثه ، و
كذا من ناحية تشكيك المبطلين الكارهين في صحة الشرع الحنيف . حديث رضاع الكبير حديث
صحيح لا مطعن فيه ، و ثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم - رواه الإمام مسلم في
" صحيحه " من حديث الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها:
( َأنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي
حُذَيْفَةَ كَانَ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فِي بَيْتِهِمْ ، فَأَتَتْ
تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ
: إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا
وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا ، وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي
حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " َأرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ ، وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي
نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ " ، فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ : إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ ،
فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَة ) .
و صدق الله العظيم القائل في حق رسوله الكريم : "
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى (4) " . [ سورة النجم ]
و سالم هذا كان قد تبناه صغيرا أبو حذيفة
( قبل تحريم التبني ) ؛ فكان يعامل معاملة الابن من النسب من حيث دخوله و
اختلاطه بأهل البيت كواحد منهم ؛ فلما كبر و بلغ سألت سهيلة رسول الله صلى الله
عليه و سلم عما استشعرته من الحرج و الضيق ؛ فأشار عليها بإرضاعه من لبنها ؛ كي
تصير أمه من الرضاع ؛ فتكون بمنزلة أمه من النسب ؛ ففعلت .
و لا تعارض و لا إشكال في الحديث ؛ إذ الرضاع هنا كان بشرب
اللبن المحلوب في كوب أو إناء ، و لم يكن بمصّ الثدي بحال من الأحوال ،
و هذا بدهي ؛ إذ لا يحل للرجل مس ثدي المرأة الأجنبية
عنه ( أي غير زوجته
) و لو كانت أخته - أو أمه - من النسب أو من الرضاع ؛ فلا يحل له ذلك منها قبل ان
تكون أختا له من الرضاع من باب أولى .
و لم يقل باشتراط التقام الثدي في الرضاع المعتبر - سواء
في الصغر أو الكبر ، و الذي تثبت به حرمة النكاح بعد - إلا الظاهرية فقط ، و خالفهم
في هذا أئمة المذاهب الفقهية الأربعة ، إذ اعتبروا وصول اللبن إلى الحلق بأي طريق
كان ( مثل صب اللبن في الفم من غير التقام الثدي ، و شربه ) رضاعا .
فالظاهرية لا يعدّون وصول لبن المرأة - إلى جوف المرتضع - بغير
التقام الثدي و مصه رضاعا
معتبرا شرعا يثبت به التحريم ؛
فلا يعدّون شرب لبن المرأة المحلوب في كوب أو إناء (
الوجور و اللدود ) رضاعا تثبت به حرمة النكاح و حل الخلوة بضوابطها - و هذا عندهم
يشمل الصغير و
الكبير ،
و رتبوا على أصلهم هذا : لزوم التقام الثدي في تفسيرهم
لرضاع الكبير . و هو تفسير فاسد
عقلا و نقلا ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لأن
يطعن في رأس أحدكم
بمخبط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له
" .
رواه الطبراني ورجاله
رجال الصحيح . [ مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي ]
و ( المسّ ) هو اللمس باليد و بغير اليد ، و لا يصرف عن حقيقته
إلا بصارف من قرينة و سياق كلام ؛ لأن الأصل في الكلام : الحقيقة لا المجاز .
و عليه : فلا يحل للرجل أن يمس بدن
امرأة أجنبية عنه - غير زوجته - و لو كانت أخته من
الرضاع ؛ قلا يحل له
ذلك منها قبل ان تكون أختا له من الرضاع بطريق الأولى
و إذا كان هذا في البدن
عامة فهو أشد حرمة في الثدي خاصة من باب الأولى و الأغلظ
؛ لأنه عورة .
و عليه : فرضاع الكبير -
المعتبر في تحريم النكاح و غيره - يكون بشربه اللبن المحلوب من
المرأة في كوب أو
إناء ، و ليس بمص الثدي بحال .
و هذا مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في اعتبار
رضاع الكبير ، و هو
مذهب لا يجوز إنكاره أو إهماله
.
نعم : مذهب الجمهور بخلافه ، و هذا الخلاف
موجود و معتبر في كثير غير ذلك
و لم تقله و تأخذ به عائشة رضي الله عنها وحدها
- كما يشاع - بل أخذت به أيضا أم المؤمنين حفصة رضي الله
عنها و روي عنها بإسناد صحيح ؛ ذكرهذا الحافظ ابن حجر
في " الفتح " ، و قال إنه تخصيص لعموم حديث أم سلمة رضي
الله عنها إن سائر أزواج النبي
صلى الله عليه و سلم أبين الأخذ بمذهب عائشة ( رضي الله عنه)
.
و عليه : فلم
تصح دعوى تخصيص رضاع الكبير بسالم .
و مما يؤيد أن ذلك الرضاع للكبير إنما كان بشرب اللبن المحلوب :
ما رواه ابن سعد في " الطبقات
الكبرى " ؛ قال :
( أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن عبد الله بن
أخي الزهري عن أبيه قال : كان
يحلب في مسعط أو إناء قدر رضعة فيشربه سالم كل يوم ،
خمسة أيام. وكان بعد يدخل عليها وهو حاسر. رخصة من رسول
الله لسهلة بنت سهيل . (
أهـ
* و أيا كان القول في اعتبار رضاع الكبير أو عدمه لكونه
رخصة خاصة ؛ فالمهم في المسألة هنا : أن رضاع
الكبير لم و لا يكون بمص الثدي بحال ؛ مما يرتب عليه
المبطلون عدم صحة الحديث
الموجود في الصحيحين أو عدم صحة الشرع الحنيف - و هذا و ذاك
باطل و بهتان
خاب
خطاهم ، و ضل مسعاهم ، و ردّ الله كيدهم في نحورهم .