أما بعد:
فقد اطلعت على المقالة التي نشرت على هذا الموقع ((الألوكة)) مما خطَّته يراعة الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله بعنوان ((منقبة للملك فيصل قدس الله روحه))،
وهي مقالة كانت نُشرت في العدد الحادي عشر من مجلة البحوث الإسلامية،
وتتحدَّث عن موقف الدكتور موريس بوكاي من الدين الإسلامي، وقد ورد فيها
أمرٌ أحببت التنبيه عليه، وهو معرفة جنس الجنين في بطن أمِّه هل هو ذكر أو أنثى؟ الذي ربما كان في ذاك الوقت غيرَ مقدور على معرفته كما قال الدكتور موريس بوكاي.
ومع هذا التطور
المعرفي - وبخاصة في مجال الطب - رأينا من مستجدَّات هذا العصر: إمكانية
معرفة هل الجنين ذكر أو أنثى بواسطة الأشعة الصوتية، وربما غيرها.
ولا شك أن هذا قد يلتبس على كثير من الناس، مع قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَْرْحَامِ... ﴾ الآية.
ودرءًا للَّبْس أحببت الجواب عن هذا الإشكال، فأقول:
من أجود ما رأيته من الأجوبة التي يمكن أن يُجاب بها عن هذا الإشكال جوابان:
1)
أن الآية وما في معناها من الأدلة الشرعية الأخرى إنما تتحدَّث عن الغيب،
ولا تتحدث عن المشاهدة، فمن زعم أنه يستطيع معرفةَ جنس الجنين في بطن أمه
رجماً بالغيب، فهذا الذي لا يستطيع ذلك، أما من لجأ إلى وسيلة من الوسائل
التي تجعله يبصر ذلك بعينيه أو ما في حُكمهما، فيكون قد انتقل من عالم
الغيب إلى عالم المشاهدة، كما هو الحال في لحظة خروج الجنين من بطن أمِّه،
ولعله يتضح بالمثال الآتي:
لو أن أحد المعاندين
للوحي من كفَّار مكة أو غيرهم قام متحدِّياً رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: أنا أستطيع معرفة ما في الرحم، ثم عمد إلى امرأة حُبلى، فبقر بطنها،
ونظر إلى جنينها، وقال: هو ذكر، هل يكون هذا واقعًا موقع التحدِّي؟
أنا لا أشك أن هذا لو
وقع فَرَضاً، لكان أول من يسخر منه أصحابه؛ لأن سياق الآية يتحدَّث عن
عالم الغيب، ولا يتحدَّث عن عالم المشاهدة.
فإذا قبلنا هذا، فما الفرق إذًا بين أن يُبْقَرَ بطنُ المرأة، وبين أن يُدخل في رحمها آلة تصوير، تصوِّر الجنين وهو في الرحم، أو ما هو بديل عن آلة التصوير كالأشعة التي تخترق جدارَ البطن وتنفُذُ إلى الرحم؟!
لقد عاد الأمر إلى عالم المشاهدة، ولم يعُد غيباً، وهذا وحدَه كافٍ في إزالة اللبس عن هذه القضية، والله أعلم.
2) أما الجوابُ الآخَر: فبالنظر إلى صيغة (ما) في قوله تعالى: ﴿ مَا فِي الأَْرْحَامِ
﴾، وهي عند أهل اللغة من صيغ العموم، فليست معرفة هل الجنين ذكرٌ أو أنثى
هي المرادة في الآية فقط، بل المقصود معرفة ما في الرحم من النواحي
كافَّة، ومن ذلك على سبيل المثال:
أ) هل هو ذكر أو أنثى؟
ب) وهل هو جميل أو قبيح؟
ت) وكم سيعيش؟
ث) وهل سيكون غنيّاً أو فقيراً؟
ج) وهل سيكون مسلماً أو كافراً؟
ح) وهل هو شقي أو سعيد؟
خ)
وهل هو طويل أو قصير،... أسود أو أبيض، يسكن في شرق الأرض أو غربها، يتزوج
أو لا، يكون له أولاد أو لا، وكم عددهم؟..... وقل ما شئت من هذه الأوصاف
التي تعتري جميع البشر.
فهل معرفة واحدة من هذه القضايا تدلُّ على ما تعنيه صيغة (ما)؟!!
وقد أخرج البخاري
ومسلم في صحيحيهما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قال: ((إِنَّ
أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلك، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلك،
ثُمَّ يَبْعَثُ الله مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ
له: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ، ثُمَّ
يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإن الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حتى ما يَكُونُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه كِتَابُهُ
فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حتى ما يَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ النَّارِ إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليه الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
فهذا الحديث مما يؤكد أن أحوال الجنين في بطن أمِّه ليست مقصورة على كونه ذكراً أو أنثى فقط، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المصدر موقع الألوكة
المصدر موقع الالوكة