إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد :
فإن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم يقول : ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما
تداعى الأكلة إلى قصعتها )
فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟
قال : ( بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم
المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن )
فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟
قال : ( حب الدنيا وكراهية الموت ) [ حديث صحيح تراه مخرجا في ( الصحيحة ) ( 958 ]
واقع المسلمين :
قد تجلى هذا الحديث النبوي الشريف بأقوى مظاهره وأجلى صوره في الفتنة العظيمة التي
ضربت المسلمين ففرقت كلمتهم وشتتت ( صفوفهم )
ولقد أصاب طرف من هذه الفتنة القاسية جذر قلوب عدد كبير من الدعاة وطلبة العلم فانقسموا
وللأسف الشديد على أنفسهم فصار بعضهم ( يتكلم ) في بعض والبعض ( الآخر ) ينقد
الباقين ويرد عليهم . . . وهكذا
معرفة الحق بالرد :
وليست تلك الردود ( مجردة ) أو هاتيك النقدات ( وحدها ) بضائرة أحدا من هؤلاء أو
أولئك سواء منهم الراد أم المردود عليه لأن الحق يعرف بنوره ودلائله لا بحاكيه
وقائله عند أهل الإنصاف وليس عند ذوي التعصب والاعتساف وإنما الذي يضير أولئك أو
هؤلاء : هو الكلام بغير علم وإلقاء القول على عواهنه والتكلم بغير حق على عباد
الله
مسألة ( فقه الواقع ) :
ولقد أثيرت أثناء تلك الفتنة العمياء الصماء البكماء مسائل شتى فقهية ومنهجية
ودعوية وكان لنا حينها أجوبة علمية عليها بحمد الله سبحانه ومنته
ومن المسائل التي أعقبت تلك الفتنة وكثر الخوض فيها : ما اصطلح ( البعض ) على
تسميته ب ( فقه الواقع )
وأنا لا أخالف في صورة هذا العلم الذي ابتدعوا له هذا الاسم ألا وهو ( فقه الواقع
) لأن كثيرا من العلماء قد نصوا على أنه ينبغي على من يتولون توجيه الأمة ووضع
الأجوبة لحل مشاكلهم : أن يكونوا عالمين وعارفين بواقعهم لذلك كان من مشهور
كلماتهم : ( الحكم على الشيء فرع عن تصوره ) ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة ( الواقع )
المحيط بالمسألة المراد بحثها وهذا من قواعد الفتيا بخاصة وأصول العلم بعامة
ففقه الواقع إذا هو الوقوف على ما يهم المسلمين مما يتعلق بشؤونهم أو كيد أعدائهم
لتحذيرهم والنهوض بهم واقعيا لا كلاما نظريا [ أما الكلام ( النظري ) الذي ليس له
من ( يتبناه ) عملا ويخرجه إلى حيز ( الواقع ) فعلا ] أو انشغالا بأخبار الكفار
وأنبائهم . . . أو إغراقا بتحليلاتهم وأفكارهم
أهمية معرفة الواقع :
فمعرفة الواقع للوصول به إلى حكم الشرع واجب مهم من الواجبات التي يجب أن يقوم بها
طائفة مختصة من طلاب العلم المسلمين النبهاء كأي علم من العلوم الشرعية أو
الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية أو أي علم ينفع الأمة الإسلامية ويدنيها من
مدارج العودة إلى عزها ومجدها وسؤددها وبخاصة إذا ما تطورت هذه العلوم بتطور
الأزمنة والأمكنة
من أنواع ( الفقه ) الواجبة :
ومما يجب التنبيه عليه في هذا المقام أن أنواع الفقه المطلوبة من جملة المسلمين
ليست فقط ذلك الفقه المذهبي الذي يعرفونه ويتلقنونه أو هذا ( الفقه ) الذي تنبه
إليه ونبه عليه بعض شباب الدعاة حيث إن أنواع الفقه الواجب على المسلمين القيام
بها ولو كفائيا عل الأقل أكبر من ذلك كله وأوسع دائرة منه فمن ذلك مثلا : ( فقه
الكتاب ) و ( فقه السنة ) و ( فقه اللغة ) و ( فقه السنن الكونية ) و ( فقه الخلاف
) ونحو ذلك مما يشبهه
وهذه الأنواع من الفقه بعمومها لا تقل أهمية عن نوعي الفقه المشار إليهما قبل سواء
منها الفقه المعروف أم ( فقه الواقع ) الذي نحن بصدد إيضاح القول فيه
ومع ذلك كله فإننا لا نرى من ينبه على أنواع الفقه هذه أو يشير إليها وبخاصة ( فقه
الكتاب والسنة ) الذي هو رأس هذه الأنواع وأسها هذا الفقه الذي لو قال أحد بوجوبه
عينيا لما أبعد لعظيم حاجة المسلمين إليه وشديد لزومه لهم وبالرغم من ذلك :
فإننا لا نسمع من يدندن حوله ويقعد منهجه ويشغل الشباب به ويربيهم عليه
نريد ( المنهج ) لا مجرد الكلام :
نعم كثيرون ولله الحمد الذين يتكلمون في الكتاب والسنة اليوم ويشيرون إليهما ولكن
الواجب الذي نريده ليس فقط أكتوبة أو محاضرة هناك إنما الذي نريده جعل الكتاب
والسنة الإطار العام لكل صغير وكبير وأن يكون منهجهما هو الشعار والدثار للدعوة
بدء وانتهاء وبالتالي أن يكون تفكير المدعوين من الشباب وغيرهم مؤصلا وفق هذا
المنهج العظيم الذي لا صلاح للأمة إلا به وعليه
فلا بد إذا من أن يكون هناك علماء في كل أنواع الفقه المتقدمة وبخاصة ( فقه الكتاب
والسنة ) بضوابط واضحة وقواعد مبينة
الانقسام حول ( فقه الواقع ) :
ولكننا سمعنا ولاحظنا أنه قد وقع كثير من الشباب المسلم في حيص بيص نحو هذا النوع
من العلم الذي سبقت الإشارة إلى تسميتهم له ب ( فقه الواقع ) فانقسموا قسمين
وصاروا للأسف فريقين حيث إنه قد غلا البعض بهذا الأمر وقصر البعض الآخر فيه
إذ إنك ترى وتسمع ممن يفخمون شأن ( فقه الواقع ) ويضعونه في مرتبة علية فوق مرتبته
العلمية الصحيحة أنهم يريدون من كل عالم بالشرع أن يكون عالما بما سموه ( فقه
الواقع )
كما أن العكس أيضا حاصل فيهم فقد أوهموا السامعين لهم والملتفين حولهم أن كل من
كان عارفا بواقع العالم الإسلامي هو فقيه في الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح
وهذا ليس بلازم كما هو ظاهر
الكمال عزيز فالواجب التعاون :
ونحن لا نتصور وجود إنسان كامل بكل معنى هذه الكلمة أي : أن يكون عالما بكل هذه
العلوم التي أشرت إليها وسبق الكلام عليها
فالواجب إذا : تعاون هؤلاء الذين تفرغوا لمعرفة واقع الأمة الإسلامية وما يحاك
ضدها مع علماء الكتاب والسنة وعلى نهج سلف الأمة فأولئك يقدمون تصوراتهم وأفكارهم
وهؤلاء يبينون فيها حكم الله سبحانه القائم على الدليل الصحيح والحجة النيرة
أما أن يصبح المتكلم في ( فقه الواقع ) في أذهان سامعيه واحدا من العلماء والمفتين
لا لشيء إلا لأنه تكلم بهذا ( الفقه ) المشار إليه فهذا ما لا يحكم له بوجه من
الصواب إذ يتخذ كلامه تكأة ترد بها فتاوى العلماء وتنقض فيه اجتهاداتهم وأحكامهم
خطأ ( العالم ) لا يسقطه :
ومن المهم بيانه في هذا المقام أنه قد يخطئ عالم ما في حكمه على مسألة معينة من
تلك المسائل الواقعية وهذا أمر ( حدث ) ويحدث ولكن . . . هل هذا يسقط هذا العالم
أو ذاك ويجعل المخالفين له يصفونه بكلمات نابية لا يجوز إيرادها عليه كأن يقال
مثلا وقد قيل : هذا فقيه شرع وليس فقيه واقع
فهذه قسمة تخالف الشرع والواقع
فكلامهم المشار إليه كله كأنه يوجب على علماء الكتاب والسنة أن يكونوا أيضا عارفين
بالاقتصاد والاجتماع والسياسة والنظم العسكرية وطرق استعمال الأسلحة الحديثة ونحو
هذا وذاك
ولست أظن أن هناك أنسانا عاقلا يتصور اجتماع هذه العلوم والمعارف كلها في صدر
إنسان مهما كان عالما أو ( كاملا )
خطأ ( الجهل ) بالواقع :
وقد سمعنا أيضا عن أناس يقولون : ( ما يهمنا نحن أن نعرف هذا الواقع ) فهذا إن وقع
خطا أيضا
فالعدل أن يقال : لا بد في كل علم من العلوم أن يكون هناك عارفون به متخصصون فيه
يتعاونون فيما بينهم تعاونا إسلاميا أخويا صادقا لا حزبية فيه ولا عصبية ليحققوا
مصلحة الأمة الإسلامية وإقامة ما ينشده كل مسلم من إيجاد المجتمع الإسلامي وتطبيق
شرع الله في أرضه
فكل تلك العلوم واجبة وجوبا كفائيا على مجموع علماء المسلمين وليس من الواجب في
شيء أن يجمعها فرد واحد فضلا عن استحالة ذلك واقعا
فمثلا : لا يجوز للطبيب أن يسوغ أحيانا القيام بعملية جراحية معينة إلا إذا استعان
برأي العالم الفقيه بكتاب الله سبحانه وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى
منهج السلف الصالح إذ من الصعب إن لم نقل : من المستحيل أن يكون الطبيب المتمكن في
علمه عارفا أيضا بالكتاب والسنة متمكنا من فقههما ومعرفة أحكامهما
التأكيد على وجوب التعاون :
لذلك لا بد من التعاون عملا بقول رب العالمين في كتابه الكريم : ) وتعاونوا على
البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ( [ المائدة : ] وبذلك تتحقق المصالح
المرجوة للأمة الإسلامية
وهذه المسألة من البداهة بمكان فإن المسلم لا يكاد يتصور عالما فقيها في الكتاب
والسنة ثم هو مع ذلك طبيب خريت ثم هو مع ذلك يعرف كما يقولون اليوم ( فقه الواقع )
إذ بقدر اشتغاله بهذا العلم ينشغل عن ذاك العلم وبقدر اهتمامه بذاك العلم ينصرف عن
هذا العلم . . . وهكذا
ولا يكون الكمال كما ذكرت آنفا إلا بتعاون هؤلاء جميعا كل في اختصاصه مع الآخرين
وبذلك وبه فقط تتحقق المقاصد الشرعية لكل المسلمين وينجون من الخسران المبين كما
قال رب العالمين : ) والعصر إن الإنسان لفي
خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (
الغلو فيما لابد منه :
لكن الذي لاحظناه ونلاحظه أن للعواطف الحماسية الجامحة التي لا حدود لها : آثارا
سلبية متعددة منها الغلو فيما لا بد منه إذ الواجب الذي لا بد منه يقسم إلى قسمين
:
الأول : الفرض العيني وهذا يجب على كل مسلم
الثاني : الفرض الكفائي وهو ما إذا قام به البعض سقط عن الباقين
فلا يجوز أن نجعل الفرض الكفائي كالفرض العيني متساويين في الحكم
ولو أننا قلنا تنزلا : يجب على طلاب العلم الصاعدين أن يكونوا عارفين بفقه الواقع
فلا يمكن أن نطلق هذا الكلام في علماء المسلمين الكبار فضلا عن أن نلزم طلاب العلم
بوجوب معرفة الواقع وما يترتب على هذه المعرفة من فقه يعطي لكل حالة حكمها
لا ينكر ( فقه الواقع ) :
وكذلك لا يجوز والحالة هذه أن ينكر أحد من طلاب العلم ضرورة هذا الفقه بالواقع
لأنه لا يمكن الوصول إلى تحقيق الضالة المنشودة بإجماع المسلمين ألا وهي التخلص من
الاستعمار الكافر للبلاد الإسلامية أو على الأقل بعضها إلا بأن نعرف ما يتآمرون به
أو ما يجتمعون عليه لنحذره ونحذر منه حتى لا يستمر استعمارهم واستعبادهم للعالم
الإسلامي وهذا لا يكون جزء منه إلا بتربية الشباب تربية عقائدية علمية منهجية
قائمة على أساس التصفية للإسلام من الشوائب التي علقت به ومبنية على قاعدة التربية
على الإسلام المصفى كما أنزله على قلب رسول صلى الله عليه وسلم
بين العلماء والحكام :
ومن الأمور التي ينبغي ذكرها هنا : أن الذين يستطيعون حمل الأمة على ما يجب عليها
وجوبا عينيا أو كفائيا ليس هم الخطباء المتحمسين ولا الفقهاء النظريين وإنما هم
الحكام الذين بيدهم الأمر والتنفيذ والحل والعقد وليس أيضا أولئك المتحمسين من
الشباب أو العاطفيين من الدعاة
فعلى الخطباء والعلماء والدعاة أن يربوا المسلمين على قبول حكم الإسلام والاستسلام
له ثم دعوة الحكام بالتي هي أحسن للتي هي أقوم إلى أن يستعينوا بالفقهاء والعلماء
[ فهم للمسلمين جماعات وأفرادا ضياء السبيل ومنار الطريق وعلى نهجهم يسيرون ] على
اختلاف علمهم وتنوع فقههم فقه الكتاب والسنة فقه اللغة فقه السنن الكونية فقه
الواقع . . . وغير ذلك من مهمات إعمالا منهم للمبدأ الإسلامي العظيم مبدأ الشورى
ويومئذ تستقيم الأمور ويفرح المؤمنون بنصر الله ) فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم
حفيظا ( [ الشورى : 4 ]
علة ذل المسلمين :
ولا بد هنا من بيان أمر مهم جدا يغفل عنه الكثيرون فأقول : ليست علة بقاء المسلمين
فيما هم عليه من الذل واستعباد الكفار حتى اليهود لبعض الدول الإسلامية هي جهل
الكثيرين من أهل العلم بفقه الواقع أو عدم الوقوف على مخططات الكفار ومؤامراتهم
كما يتوهم
من أغلاط بعض ( الدعاة ) :
ولذلك فأنا أرى أن الاهتمام بفقه الواقع اهتماما زائدا بحيث يكون منهجا للدعاة
والشباب يربون ويتربون عليه ظانين أنه سبيل النجاة : خطأ ظاهر وغلط واضح
والأمر الذي لا يختلف فيه من الفقهاء اثنان ولا ينتطح فيه عنزان : أن العلة
الأساسية للذل الذي حط في المسلمين رحاله :
أولا : جهل المسلمين بالإسلام الذي أنزله الله على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام
وثانيا : أن كثيرا من المسلمين الذين يعرفون أحكام الإسلام في بعض شؤونهم لا
يعملون بها
التصفية والتربية :
فإذا : مفتاح عودة مجد الإسلام : تطبيق العلم النافع والقيام بالعمل الصالح وهو
أمر جليل لا يمكن للمسلمين أن يصلوا إليه إلا بإعمال منهج التصفية والتربية وهما
واجبان مهمان عظيمان وأردت بالأول منهما أمورا :
الأول : تصفية العقيدة الإسلامية مما هو غريب عنها كالشرك وجحد الصفات الإلهية
وتأويلها ورد الأحاديث الصحيحة لتعلقها بالعقيدة ونحوها
الثاني : تصفية الفقه الإسلامي من الاجتهادات الخاطئة المخالفة للكتاب والسنة
وتحرير العقول من آصار التقليد وظلمات التعصب
الثالث : تصفية كتب التفسير والفقه والرقائق وغيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة
والإسرائيليات والمنكرات
وأما الواجب الآخر : فأريد به تربية الجيل الناشئ على هذا الإسلام المصفى من كل ما
ذكرنا تربية إسلامية صحيحة منذ نعومة أظفاره دون أي تأثر بالتربية الغربية الكافرة
ومما لا ريب فيه أن تحقيق هذين الواجبين يتطلب جهودا جبارة مخلصة بين المسلمين
كافة : جماعات وأفرادا من الذين يهمهم حقا إقامة المجتمع الإسلامي المنشود كل في
مجاله واختصاصه