[size=18]
السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقعأبو مريم محمد الجريتلي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له،
ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن
محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إن الناظر إلى الأحداث الجسيمة والنوازل
العظيمة التي أحاطت اليوم بالعالم عامة وبالأمة الإسلامية خاصة لا يستغرب
حدوثها ولا يفاجأ بها حينما يرجع إلى كتاب ربه وينطلق من توجيهاته في ضوء
سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي فردا على حساب فرد، ولا
مجتمعا على حساب مجتمع آخر ؛ فالنتائج التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض
أكثر المؤمنين إيمانا وأشدهم ورعا وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفرا
وأشدهم فسقا وفجورا وعتوا إذا وافق السنن التي قد حددها ربنا لتسير الأمور
على وفاقها: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾
[1].ومرجع ذلك أن السنن الربانية في الحياة
البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل،
ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها
وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾
[2].وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من
غثائية فأصبحت كالقصعة المستباحة إلا بسبب جهل أبنائها بالسنن الإلهية
التي تحكم حياة الأفراد والأمم والشعوب، وفق المنهج الذي قرره العليم
الخبير: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾
[3]،
فالذي يطلب الأسباب ليخرج من ظلمات هذا التيه على غير بصيرة لا يزيد إلا
بعدا، ولن يفهم التاريخ، فيعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء
والتمكين، وعوامل الهدم والخوف والتدمير و الاستبدال إلا بمعرفة سنن الله
عز وجل.
وما أحوجنا
في أزمنة الأحداث الجسام إلى أن نذكر أنفسنا ونذكر الناس بسنن الله
القدرية ؛ فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول، وتذهل فيها أفئدة، وقد تزل
فيها أقدام أقوام، وتضل أفهام آخرين، والهداية من عند الله، قال تعالى: ﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ
الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ﴾
[4] فهي بمثابة طوق النجاة من ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج العبد يده لم يكد يراها.
وهنا يأتي السؤال ما المقصود بالسنن الإلهية التي هي طوق النجاة؟
1- المقصود بالسنن الإلهية:
هي القوانين الحاكمة قدرا في العباد التي تجري باطراد وثبات وعموم، في حياة البشر.
فلله في الأفراد سنن، وفي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن. والسنن تعمل مجتمعه ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع
لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك من
نتائج كالنصر أو الهزيمة، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو
التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾
[5].
لنتعرف على
هذا المعنى من أحسن حديث وأبين بيان ؛ كتاب ربنا، فالله سبحانه وتعالى
عندما أراد من عباده أن يفقهوا سننه الإلهية بين لهم منها ما تتحقق به
الهداية لهم، فقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
[6] لذلك نحتاج للاستضاءة بنور الوحي لفهم السنن فما مفهوم السنن الإلهية في القرآن؟
2- مفهوم السنن الإلهية في القرآن.
وردت لفظة سنة الله أوسنتنا في القرآن الكريم في مواضع، قال تعالى:
1- ﴿لَئِن
لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا * سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا﴾
[7]والآيات فيها من التهديد والوعيد لأهل
النفاق ما يخلع قلوبهم ويزلزل أفئدتهم لو وعته تلك القلوب، فهذه سنته
تعالى في المنافقين إذا مردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه ؛
يسلط الله عليهم أهل الإيمان فيقهروهم.
2- ﴿أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي
الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ *
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم
مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾
[8].
تدعو الآيات كل معرض معاند إلى السير
والنظر في عاقبة الذين كانوا من قبلهم، وقد كانوا أكثر منهم وأشد قوة
وعمارة للأرض، ومع ذلك لم يغن عنهم ذلك شيئا ؛ ذلك أنهم ما آمنوا برسلهم
الذين أتوا لإخراجهم من الظلمات إلى النور، بل فرحوا بما عندهم من العلم
فأحاط بهم شؤم ما كانوا به يستهزئون، فعندما عاينوا وقوع العذاب بهم قالوا
آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم تكن لتقبل توبتهم ولا
لتقال عثرتهم ؛ لأنها سنة الله التي مضت في عباده، وحكمه في جميع من تاب
بعد معاينة العذاب أنه لا تقبل توبته: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾.
3- ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا﴾
[9].
فهذا البشارة من الله تعالى لأهل الإيمان
بالنصر والتمكين على الكفار في كل زمان ومكان ما تمسك أهل الإيمان
بإيمانهم فالله ناصرهم وهو مولاهم، والكفار لا ناصر لهم ولا ولي كما قالها
النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم،
وكذلك مضت سنة الله في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها، ولن تجد لسنة الله
تبديلا ولا تغييرًا.
4- ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾
[10].
يقول ابن كثير في تفسيره رحمه الله: "﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ﴾
أي: هذا حكم الله في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك
حرج، وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصا في تزويجه امرأة زيد مولاه
ودعيه، الذي كان قد تبناه.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ أي: وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن "
[11].
5- ﴿فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا.اسْتِكْبَارًا فِي
الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ
بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا﴾
[12]"كانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما
كانت الرسل من بني إسرائيل، فلما جاءهم ما تمنوه وهو النذير من أنفسهم،
نفروا عنه ولم يؤمنوا به. ﴿اسْتِكْبَارًا﴾ أي عتوا عن الإيمان ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.
﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ﴾ أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا﴾
أي أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من
استحقه، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره."
[13].
6- ﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا﴾
[14].
وردت هذه الآية في سياق الحديث عن صورة
من صور الصراع بين الحق والباطل، تنتقل من مجرد بغض الحق وكراهته إلى
إظهار العداوة والمبارزة مع أصحاب الدعوة، فالباطل لا يرضى حتى بمجرد وجود
الحق لأنه موقن أن في الحق قوة ذاتية متحركة غير ساكنة لا تقبل إلا
الانتشار والتوسع والتأثير وكسب الأنصار والأتباع والتمكين والهيمنة له
وسنة الله انتصار الحق ولو بعد حين ولو
دالت للباطل دولة يوما ما فإنها لا تدوم فسرعان ما ينجلي الباطل ويحل الحق
وإن أخرجوا الدعاة من ديارهم وإن حبسوهم وإن قتلوهم فلن يحل الباطل محل
الحق أبدا ؛ سنة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
كما وردت لفظة سنت الأولين التي هي سنة الله فيهم في مواضع أخرى قال تعالى:
فقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه تارة﴾ سُنَّةَ اللهِ ﴿وأضافها إلى القوم تارة أخرى﴾ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ﴿لتعلق الأمر بالجانبين، وهو كلفظ الأجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾
[15] وقال: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ﴾
[16].
1- ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ﴾
[17]يقول الإمام الطبري: " ﴿قُل﴾ يا محمد، ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من مشركي قومك ﴿إِن يَنتَهُوا﴾
عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله، وقتالك وقتال المؤمنين،
فينيبوا إلى الإيمان يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم
وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم ﴿وَإِنْ يَعُودُوا﴾،
يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر
فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون الخالية، إذ طغوا
وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال عاجل النِّقَم بهم، فأحلّ بهؤلاء
إن عادوا لحربك وقتالك، مثل الذي أحللت بهم "
[18].
وفي ذلك تحذير ووعيد وتهديد للمعاندين
بأن السنة الماضية والقانون الحاكم لخلق الله يجري على الناس جميعًا دون
مجاملة ولا محاباة" فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف، ولقد مضت سنة الله
تعالى أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين؛ وأن يرزق أولياءه النصر
والعز والتمكين.. وهذه السنة ماضية لا تتخلف.. وللذين كفروا أن يختاروا
وهم على مفترق الطرق "
[19].
2- ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾
[20]والآيات الكريمة تتكلم عن حقيقة حتمية لا
تتخلف ولا تتبدل وهي الصراع بين الحق والباطل، وما يلقاه أصحاب الحق من
استهزاء وتنكيل من أقوام لا يعرف الإيمان سبيلا لقلوبهم، وهذه الحقيقة سنة
ماضية ما تخلفت في الذين جاءوا من قبل ولن تتخلف حتى يرث الله الأرض ومن
عليها، والآيات خطاب للمؤمنين لتتهيأ نفوسهم لحقيقة الصراع الذي لا هوادة
فيه، مع البشارة لهم بالعاقبة والنصر كما كان للرسل وأتباعهم، وخطاب
للمعاندين ألا يسلكوا سبيل الذين خلو من قبل فما أصابهم من الهلاك لاحق
بكم فهي سنة لا تحابي ولا تجامل أحدا.
3- ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا﴾
[21]ما منع الناس أن يؤمنوا أو لم يأتهم من
الهدى ما يكفي للاهتداء؟!. أم أنهم يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من
قبلهم من هلاك أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه واقع لا محالة، إن هذا
ليس من شأن الرسل بل هو من أمر الله كما جرت سنته في الأولين بأخذ
المكذبين بالهلاك سنت الله التي لا تتخلف ولا تتبدل.
كما وردت لفظة سنن مفردة غير مضافة في موضع واحد:
1- ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾
[22]"لقد أصاب المسلمين القرحُ في غزوة أحد،
وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير.
قتل منهم سبعون صحابياً، وكسرت رباعية الرسول - صلى الله عليه وسلم -وشج
وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح..
وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى قال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: ﴿أَنَّى هذا﴾؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟!
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن
الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعاً
في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي
جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها،
تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع،
واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة
وراء هذا النظام واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم
يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب
النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.
والسنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي:
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ،
ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر
على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات
بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم
يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعداءهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً،
وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً، والعاقبة بعد لهم، والدائرة على الكافرين.
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها.
﴿فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾..
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض،
وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم
كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة، بعضها حدد مكانه
وزمانه وشخوصه.
وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:
إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله
للمكذبين اليوم وغداً، ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من
جهة وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى. "
[23]والآيات من كتاب الله عز وجل في ذكر مثل
هذه السنن كثيرة جداً غير محصورة فيما ذكرنا بلفظ السنن بل ورود المعنى
متضافر الذكر في القرآن وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء مع
أقوامهم ومن ذلك ما ورد في القرآن من ذكر (أَيَّام اللّهِ).
قال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾.
وأيام الله: "وقائع الله في الأمم السالفة، والأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية"
[24].
• (أَيَّام اللّهِ)
التي تفسر سنن الله ليست ماضية فقط، بل هي حاضرة أيضا ومستقبلة؛ فكما جرت
بشأن السنن أيام ووقائع في الماضي الغائب عنا؛ فهي تجري في الحاضر المحيط
بنا والمستقبل البعيد منا..
ومما ورد في معنى الاعتبار بالسنن أمر الله بالسير في الأرض للاعتبار بمن سبق:
والأمر بالسير في الأرض والدعوة إليه ورد في القرآن الكريم في مواضع عدة منها:
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ
بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
[25].
وتأتي هذه الآية الكريمة سنة من سنن الله
تعالى في الخلق بعد الحديث عن تكذيب قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم
لوط وأصحاب مدين وقوم موسى، والقرى التي أهلكت وهي ظالمة.
وقوله تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَسيِرُوا فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا
أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ
مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ
اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
[26].
فالآية الكريمة تحض الناس على السير في
الأرض والنظر في عاقبة الذين من قبلهم، وما كان لهم من قوة أشد من قوتهم
وآثارهم التي عمروا بها الأرض، وقد جاءتهم الرسل بالبينات فما ظلمهم الله
ولكن ظلموا أنفسهم بتنكبهم الصراط المستقيم، وقد وردت هذه الآية بعد سنة
من سنن الله تعالى في الخلق وهي سنة المداولة ؛ فقد تحدثت السورة عن هزيمة
الروم في أدنى الأرض وأنهم من بعد هزيمتهم سيغلبون في بضع سنين، وذلك لأن
الأمر كله لله من قبل ومن بعد، لكن الأمر ينتهي بسنة الإهلاك للكافرين
جميعا وزوال ملكهم وإن شادوا وبنوا وعمروا لما نسوا وظلموا وبدلوا.
وقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ
عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
[27]ووردت الآية الكريمة عقب جواب الله تعالى
على كلام المشركين بأنه لو شاء الله ما عبدوا من دونه من شيء هم ولا
آباؤهم، ولا حرموا من دونه من شيء. فكان الجواب أن الله قد أقام حججه
برسله بيانا لا لبس فيه ولا خفاء أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فكان
الناس فريقين منهم من هدى الله لاتباع رسله ومنهم من حقت عليه الضلالة
بعناده وتكذيبه وكفره وإعراضه فجاءت الآية آمرة بالسير للتفكر في آثار
الهالكين من المكذبين، الذين لم يسمعوا إلا لقول الآباء والأجداد وأعرضوا
عن دعوة المرسلين.
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تدعو
إلى السير وتأمر به، فهي آيات تدعوا للكشف عن حقيقة السنن الإلهية في
الأمم الغابرة لنعتبر بها اليوم ونتوقع بها المستقبل.
3- تطابق الواقع مع ما قرره القرآن من سنن إلهية:
ولما كان
الكفار لا يؤمنون بكتاب ربنا بل لا يؤمنون بكثير من الغيب جعل الله لسننه
شواهد مادية باقية، فنحن نشاهد آثار قرى عاد و ثمود، وكيف أهلكهم الله
تعالى، وبقيت معالمهم ومصانعهم عبرة حتى نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -
أصحابه غشيانها وإتيانها، إلا أن يكونوا باكين معتبرين، يعرفون ما هذه
السنة التي جرت على هؤلاء فيتجنبونها.
وكذلك جثة فرعون مصر التي تطوف العالم اليوم ليحق فيه قوله تعالى ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾
[28].
"عبرة من بومبي":
بومبي: يطلق
هذا الاسم على هضبة صغيرة قريبة من بركان فيزوف من مقاطعة نابولي
بإيطاليا، وهي في الأصل مدينة بلغ سكانها مائة ألف، وكانت المحلة التي
يقضي فيها أغنياء الرومان أوقات الاستمتاع بملذاتهم وشهواتهم.. وقد غطيت
بحمم بركان فيزوف منذ سنة 79 بعد الميلاد، واستمرت محجوبة حتى سنة 1748م
حيث عثر أحد الفلاحين على بعض آثارها، فبدأت الحفريات حتى أمكن إظهار
أكثرها.
"لقد أخبرنا
التاريخ بهلاك هذه البلدة في غمرة مفاجئة من حمم فيزوف طمستها في دقائق
معدودة، ولكنه لم يعرفنا شيئا عن هذه المدينة سوى أنها بلد الفن الإيطالي
حتى إذا شاء الله أن يكشف عبرتها، هدى الإنسان إلى إبرازها من تحت الركام،
فإذا هناك عجب.. شعب بأكمله استحال إلى محنطات لم يبل منها شيء، ولم يتغير
وضع، حتى الخباز لترى في يديه لوحا مستخرجا به الخبز.. وحتى السكارى
ليمسكون بكؤوس الخمر على شفاههم... وحتى الفاسقون في أشنع حالات الفحشاء.
وكان من بالغ عبر بومبي ما يراه السائحون هناك فوق مداخل بعض القصور:
رسوم موازين منحوتة في الصخر في إحدى كفتي الواحد منها أكداس من الجواهر،
يقابلها في الأخرى رمز اتخذوه للفاحشة، راجحا على تلك الأكداس، إشارة إلى
أن الشهوة عندهم هي غاية الحياة. إن مَثُلات القدر لم تنته من الأرض، فلئن
هلك بعض الأمم الظالمة بالخسف أو النسف أو الجوع أو المسخ... إن ذلك
لمستمر لم ينقطع بعد ولن ينقطع .. وإلا فما
هذه الزلازل تقرع البشر هنا وهناك؟... وما هذه السيول تجرف المدن والقرى
في الشرق والغرب؟... وما هذه الأمراض الفتاكة تجتاح الإنسان في كل مكان؟ وقد عجز العلم عن استئصالها، فما يكاد أن يستريح من غارة حتى يستأنف التعبئة لدفع غارة!"
[29].
والتاريخ
يصدق هذه السنن التي جاءت في النصوص الشرعية، ولم تكن السنن لتجري على
الكفار دون المؤمنين فانظر على سبيل المثال ما حل بالمسلمين في أواخر
الدولة الإسلامية في الأندلس؟! كيف غير المسلمون حالهم فغير الله عز وجل
حالهم؟! ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾
[30] وهذه سنة الله في الأمم.
وأضرب مثالا آخر ولكن من حياة الأفراد وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فقد حكى أصحاب السير أنه "لما جاء
السلطان الملك الناصر بجيوش الإسلام للقاء القتال جعل الشيخ يشجع السلطان
ويثبته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال يا لخالد بن الوليد! فقال له:
لا تقل هذا، بل قل: يا الله؛ واستغث بالله ربك ووحده تنصر، وقل: يا مالك
يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. ثم صار تارة يقبل على الخليفة وتارة
على السلطان ويهديهما ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح. وحُكي أنه
قال للسلطان: اثبت فإنك منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله. فقال
إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فكان كما قال"
[31].
4- فهم الصحابة للسنن الإلهية:
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم مهتدين
بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها، وكيف لا وقد عاشوا تنزيل القرآن
وتفسير الرسول له وبيانه لما تضمنه من عبر وعظات، وتنزيل تلك السنن في
حياتهم في كل نازلة في النصر والهزيمة، والقوة والضعف، والشدة والرخاء ؛
تربية بالأحداث كما وردت القصص القرآني لربط الماضي بالحاضر والمستقبل في
حياتهم لأنهم حين يسمعون من رسول الله قصة موسى وفرعون وهلاك فرعون ومن
معه ونجاة موسى ومن معه يوقنون أن العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين لكن
النصر لا يكون إلا مع الصبر.
عندما يحكي لهم القرآن عن أبي الأنبياء
إبراهيم عليه السلام وما لقاه من أذى قومه وأقرب الأقربين إليه، وهو خليل
الله يحكي لهم القرآن كيف هان على قومه فألقوه في النار فتتعطل السنن
الجارية من إحراق النار بل وتتحول لتكون بردا وسلاما فيملأ ذلك قلوبهم
بردا وسلاما وهدى ويقينا أن للأسباب رب هو مسببها ومسيرها فإن ضاقت
الأسباب المادية فالله قادر على نصرهم بالأسباب المادية وبدونها وبضدها ما
أطاعوا أمره والتزموا شرعه ونصروا دينه.
ولقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم -
الصديق ذلك الدرس وهما في مسرح الأحداث حيث كان الكفار قد أحاطوا بهم كما
يحيط السوار بالمعصم وهما في الغار انقطعت بهما الأسباب مدركان لا محالة
لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآهما لكن الإجابة التي لا ضعف فيها ولا احتمال ما
بالك باثنين الله ثالثهما .
ثم لحق النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالرفيق الأعلى وترك أصحابه على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ترك فيهم
ميراث الأنبياء وهو العلم ذاك النور الذي من تمسك به هدي وفي التاريخ من
الشواهد ما لا حصر لها من فقه الصحابة لتلك السنن من ذلك موقف الصديق من
وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -ويقينه بأن للآجال حد معلوم وأن لبني
البشر أفرادا وأمما وجماعات أجل يعلمه الله وأن الله هو الحي الذي لا يموت
فتلك سنة قدرية أزلية باقية ما بقيت السماوات والأرض ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾
[32] فانظر كيف كان ثبات الصديق في ذلك الموقف العصيب.
5- أهمية دراسة السنن الإلهية:
1- معرفة السنن الإلهية فريضة شرعية وضرورة واقعية:
"فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر
الكتب، وبين فيه ما لم يبينه في غيره. بين فيه كثيرا من أحوال الخلق
وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر، قص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها
الموافقة لسنته فيها فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر
في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم
وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه، ويحتاج
في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه...
أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن
الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال
صادر عمن أحاط بكل شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض
لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم
الكون بنظرة في ظاهره،لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم
وحكمة"
[33].
" إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه
سننا ؛ يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة لنستديم ما
فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن
يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من
العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء
بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه. والعلم بسنن الله تعالى
من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على
مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة
حقيقتها..."
[34]2- لا نستطيع أن نفهم التاريخ ونحلل الأحداث إلا بفهم السنن الإلهية:
فمن خلال السنن الإلهية نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيرا شرعيا سليما ينفعنا في تقييم حاضرنا وتوقع مستقبلنا ؛
وللأسف كثير من المسلمين اليوم لا يملكون القدرة على ربط النتائج
بالأسباب، وكشف اللثام عن حقيقة السنن بل قد يدهشهم الواقع دون تفسير
حقيقي لما سيكون في الغد من أحداث، قد تكون سعيدة أو مؤلمة.
أما أصحاب البصائر من أهل العلم فهم
يعرفون عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، وعوامل الهدم
والخوف والجوع والمرض، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم
بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾
[35].
فتبدل الأحوال في المجتمع من الصحة إلى
السقم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزة إلى الذلة...
مرتبط بإرادة الناس وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله به.
وأسباب الاضمحلال والسقوط في مثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا
أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾
[36]؛ إذ ربطت هذه السنة بين أمرين: بين فسق المترفين في المجتمع، وبين دمار
ذلك المجتمع وانحلاله، وأهل الترف هم من سماهم القرآن الملأ وهم حاشية
الملك من الأثرياء والوجهاء الذين شغلتهم أموالهم ومناصبهم عن أمر الآخرة
فولوا وجوههم نحو الدنيا وجعلوها قبلتهم فكان دمارهم حتما ولزاما.
إنها سنة ماضية في كل المجتمعات التي تحيد عن منهج الله تعالى وتأبى الخضوع لحكمه.
"والقرآن الكريم حين لفت أنظار الناس إلى
أحوال الأمم السابقة وعواقب الأمم البائدة، إنما أراد بذلك أن نستخلص
العبر ونستجلي العظات لبناء مجتمعات مؤمنة سليمة، قوية وعادلة.
ويعتبر العالم كله مدينا للحضارة
الإسلامية بتلك الطفرة العلمية في تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد
منهجية وجه القرآن الكريم نظر الإنسان إليها، ووفق سنن ثابتة مطردة تتحقق
نتائجها كلما تحققت أسبابها بإذن من الله تعالى ويستطيع الناس تفسير تلك
الظواهر، وبناء تصورهم لمقدماتها وسحب النتائج عليها، ومعرفة مراحلها
وأطوارها.
كان قصارى ما يرويه المؤرخون وما يدونون
من الأخبار، مجرد روايات عن الأحداث، لا يربط بينها منهج سببي مطرد يحدد
نسق التسلسل بين الأحداث، كما يحدد نسق الترابط بين المقدمات والنتائج،
وبين الأسباب والمسببات، وبين المراحل والأطوار، فجاء المنهج القرآني
لينقل المجتمعات البشرية إلى الأفق الرحب، ويحدد لها منهجا للنظر
والاستقراء والاستدلال في معالجة التاريخ الإنساني والفعل الاجتماعي عبر
الماضي والحاضر والمستقبل."
[37]3- معرفة السنن والسير على هداها أخذ بأسباب النصر والتمكين والفلاح:
لأن لله سنن في النصر والتمكين كما له
سنن في التغيير والاستبدال وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة
وإعراض عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عز وجل،
الذين هم أعرف الناس بالله سبحانه، وبأسمائه وصفاته، وبالتالي فهم أعرف
بسننه سبحانه وعاداته وأيامه وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها، وما
حلت الهزيمة محل النصر والضعف محل القوة والعزة محل الذل إلا بسبب الإعراض
عن معرفة سنن الله عز وجل وما فيه من الهدي والنور.
ولكن النظر
إلى هذه السنن يهب المؤمن كذلك الاطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر
المؤمنين الصادقين، وبالتدمير على الكافرين المعاندين، فلا ييأس المؤمن ؛
لأن عنده رسوخاً في إيمانه بأن المستقبل لهذا الدين.
فمعرفة هذه
السنن تجعل المؤمن يرى حركة هذه السنن في الأمم الكافرة الممكنة وهي
تتهاوى دولة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، وتحق عليها السنن، فيؤمن بأن الله
تعالى سننه لا تتخلف ولا تبدل ولا تحابي ولا تجامل فيطمئن قلبه لوعد الله .
وقد قص الله
علينا في كتابه أخبار أمم كثيرة، ممن استفادوا من هذه السنن، آمنوا بها
وعرفوها وراقبوها ورصدوها، واغتنموا الانتفاع بها، فوهبهم الله تعالى
النصر، والتمكين، والقوة، والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، كما قص علينا
قصص أمم أخرى جهلت هذه السنن، أو عرفتها ولكنها لم تعمل بموجبها، فحقت
عليها كلمة العذاب، فلم ينقذهم بعد ذلك ما كانوا فيه من قوة ونصر حينما
بدأت عوامل الانحراف وعوامل الضعف تعمل فيهم عملها.
وموافقة
السنن الإلهية مما يمنح المسلم شعورا بالعزة ، لأن بعض الناس إذا رأوا قوة
العدو و رأوا ضعف المسلمين، ربما داخلهم نوع من اليأس، حتى ربما يميل
بعضهم إلى العزلة، لأنه رأى أمراً لم يكن يخطر له على بال، لكن تفطنه إلى
السنن الإلهية يجعله يطمئن لوعد الله بأن العاقبة للمتقين.
4- في معرفة السنن والسير على هداها اجتماع للكلمة ووحدة للصف:
ففي معرفة السنن ما يعين المسلمين على
الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والضعف والتشتت ؛ لأن كشف السنة التي
تحكم أمرا من الأمور، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة عليم خبير، وينقل
التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والرد والاختلاف
إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾
[38].
فيجمعهم هذا الأمر بعد تفرق، ويقويهم بعد ضعف، ويوحدهم بعد شتات، ويقيمهم بعد انحراف واعوجاج.
5- في معرفة السنن والسير على هداها تحقيق لمعنى الاستخلاف في الأرض:
فمعرفة السنن التي تؤدي لحدوث الظواهر
سواء كانت مادية أو إنسانية، ما يفيدنا في التحكم بهذه الظواهر، بمعرفة
شروطها وأحكامها وموانع حدوثها، ويجعلنا قادرين على تسخيرها لصالحنا
والاستفادة منها وتوظيفها في تصريف شؤون حياتنا، مما ييسر لنا مهمة
الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.
6- في معرفة السنن ما يرسخ في المؤمنين تعظيم الله وحبه:
"إن معرفة
هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم
والجماعات والأفراد ؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته،
فإذا اطلع المؤرخ مثلاً أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على
آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت
عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ
إجلالاً وتوقيراً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف
قائلا كما قال الله عز وجل وأمر: ﴿قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
[39] سبحانه ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾
[40]من شأنه أن يعز أفراداً ويذل آخرين، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، يغني هذا
ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك: لك في البرية حكمة ومشيئة أعيت مذاهبها
أولي الألباب إن شئت أجريت الصحاري أنهراً أو شئت فالأمواج فيض سراب ماذا
دهى الإسلام في أبنائه حتى انطووا في محنة وعذاب فغناهُمُ فقر ودولة مجدهم
في الأرض نهب ثعالب وذئاب"
[41].
7- خصائص السنن الإلهية:
للسنن الإلهية خصائص ثلاث:
أ – الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾
[42].
فهي عبارة
عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق سبحانه
لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم
ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل
النهوض الحضاري.
"والأمور لا تمضي في الناس جزافًا ؛
والحياة لا تجري في الأرض عبثًا ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق لا تتبدل ولا
تتحول، والقرآن يقرر هذه الحقيقة، ويعلمها للناس، كي لا ينظروا الأحداث
فرادى، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصلية، محصورين في فترة قصيرة
من الزمان، وحيز محدود من المكان.
ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة، وسنن الوجود، فيوجههم دائمًا إلى ثبات السنن واطراد النواميس"
[43]ب – العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق دون استثناء وبلا محاباة: ﴿لَّيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا
يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا﴾
[44].
فهي حاكمة على جميع الأفراد، والأمم
والمجتمعات، فإذا وقفنا عند قانون من قوانين الله تعالى كقانون النصر نعلم
أن له ضوابط ومعالم تنسحب على الجميع دون مجاملة ولا محاباة.
والناظر في حياة الرسول وسيرته يجد هذا
المعنى واضحًا، فعندما أخذ الصحابة سنة الله في النصر مثلا آتى النصر لهم
أُكُله وأعطى ثمره، وعندما خالفوا أمر الرسول لم تنخرم لهم السنة ولم
تتبدل ؛ بل حكمت عليهم وفيهم أعظم خَلْق الله - صلى الله عليه وسلم -.
"ذلك أن السنن عامة تنطبق على البشر
جميعًا، وليست خاصة بطائفة دون طائفة ولا لجيل دون جيل، والذي يؤكد عمومية
الموضوع أن الله يقول للرسول: ﴿قُلْ مَا
كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ
بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ
مُّبِينٌ﴾
[45]ويصور الرسول هذا الموضوع بصورة من يرى المستقبل من خلال السنن حين يقول:
"ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين من قبلكم حذو القذة بالقذة "
[46].
حتى إنه يصل في المشابهة إلى أن يحشرهم في جحر الضب، ومثل هذا النظر إلى الموضوع هو الذي نفتقده الآن، وعلينا أن نكتسبه.
وهذه النظرة القرآنية هي التي تجعل
المسلم قادرًا على الاعتبار الذي يلح عليه القرآن، فأمامنا تجارب القرون
الماضية، تجارب كثيرة تظهر فيها سنن الأقوام التي يخضع لها المسلمون أيضًا
كأي قوم من الأقوام، وهذا النظر القرآني يجرد الإنسان من ملابساته ويرجعه
إلى أصله المجرد الذي يخضع للسنن"
[47].
فالذي يفهم السنن الإلهية وعمومها يملك القدرة على التعامل مع هذه السنن، ويحسن الاستعداد لنتائجها.
ج - الاطراد: أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكانا وزمانا وأشخاصا وأفكارا: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾
[48].
"جاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله
تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سنته في
الحرب مثلا ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا..، ومن تنكبها خسر وإن كان
صديقا..، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشجوا رأسه، وكسروا سنه..
والمؤمنون الصادقون أجدر الناس بمعرفة
سنن الله تعالى في الأمم، وأحق الناس بالسير على طريقها بين الأمم؛ لذلك
لم يلبث أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم،
وتقدموا للدفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون، ولم ينالوا
منهم ما كانوا يقصدون.
وكأن بعض المسلمين لم يكونوا قد حفظوا ما
ورد في السور المكية من إثبات سنن الله في خلقه وكونها لا تتبدل ولا
تتحول.. أو حفظوا ولم يفقهوه ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد
كما يعلم من قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾
[49]لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له سننا عامة جرى عليها
نظام الأمم من قبل. وأن ما وقع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك
السنن التي لا تتحول ولا تتبدل.
ولما كان التعليم بالقول وحده من غير
تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به نبههم على هذا التطبيق في
أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى فقال: ﴿فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
[50]..
فجريان الأمور على السنن المطردة حجة على
جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، وهي تدحض ما وقع للمشركين
والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا: لو كان محمد - صلى الله عليه
وسلم - رسولا من عند الله لما نيل منه، فكأنه يقول لهم: إن سنن الله حاكمة
على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه.
فما من قائد عسكر يكون في الحالة التي
كان عليها المسلمون في أحد، ويعمل معه ما عملوا إلا وينال منه؛ أي يخالفه
جنده، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين
ظهورهم وما يعبر عنه بخط الرجعة من مواقعهم والعدو مشرف عليهم إلا ويكونون
عرضة للانكسار إذا هو كر عليهم من ورائهم، ولا سيما إذا كان ذلك بعد فشل
وتنازع..، فما ذكر من أن لله تعالى سننا في الأمم هو بيان لجميع الناس
لاستعداد كل عاقل لفهمه، واضطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه، إلا أن
يترك النظر أو يكابر ويعاند.
وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة فهو
أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبق عليهم من
الوقائع فيستقيمون على الطريقة، هم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة لأنهم
يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة، فليزن مسلمو
هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات، ولينظروا أين مكانهم من هدايتها، وما هو حظهم من موعظتها؟
أما إنهم لو فعلوا فبدءوا بالسير في
الأرض لمعرفة أحوال الأمم البائدة وأسباب هلاكها، ثم اعتبروا بحال الأمم
القائمة وبحثوا عن أسباب عزها وثباتها، لعلموا أنهم أمسوا من أجهل الناس
بسنن الله، وأبعدهم عن معرفة أحوال خلق الله، ولرأوا أن غيرهم أكثر منهم
سيرا في الأرض، وأشد منهم استنباطا لسنن الاجتماع، وأعرق منهم في الاعتبار
بما أصاب الأولين، والاتعاظ بجهل المعاصرين، فهل يليق بمن هذا كتابهم، أن يكون من يسمونه بسمة العداوة له أقرب إلى هدايته هذه منهم؟
كلا إن المؤمن بهذا الكتاب هو من يهتدي
به ويتعظ بمواعظه ولذلك جعل الهداية والموعظة من شئون المتقين الثابتة
لهم، والمتقون هم المؤمنون القائمون بحقوق الإيمان، كما قال في أول سورة
البقرة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾
[51] ..
فما أصابكم من القرح في أحد ليس مما
ينبغي أن يكون موهنا لأمركم ومضعفا لكم في عملكم و