عناصر تراجم الرواة عند المحدثين
المقدمـة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي عده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيت من العناية والاهتمام من أمة الإسلام ما كان حريّاً بانبهار الدارسين لتاريخ هذه السنة، وإعجابهم بما تركه سلف الأمة من عناية وتنظيم، وقواعد قوية في التحقيق والتدقيق، والحفظ والحياطة لهذا الإرث العظيم، وقد كان من جوانب هذه العناية التصنيف في التعريف بحال نقلة هذه الأخبار ومدى الوثوق بنقلهم وتحملهم وأدائهم لها. ولعل نظرة سريعة لتاريخ المعرفة الإسلامية تؤكد لنا مقدار هذه العناية، ومقدار الجهد الذي بذل في ذلك، من خلال تنوع المصنفات واختلاف المناهج فيها.
وإن الناظر في كتب علماء الإسلام وتصنيفاتهم يجد أموراً مهمة جديرة بالدراسة والتحقيق، وحرية بالإبراز والبيان، ليعرف الناس مقدار الجهد الذي سخره الله تعالى على يد علماء الإسلام لحياطة سنة خير البرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن نظرة سريعة في كتب علوم الحديث تعطي صورة مشرقة لهذه الأمة وما وصلت إليه في التدقيق والتحقيق العلمي المتين، وحيث إن العناية عند المحدثين تتناول جانب الرواية وجانب الرواة؛ نقلة الأخبار، فإني تتبعت جوانب مشرقة من جهودهم ورأيت تميزاً لأهل الحديث في التأليف في باب التراجم للرواة عن غيرهم من المؤلفين في التراجم والإعلام.
ولا شك أن سبب ذلك هو المقصد من التأليف عند كل واحد منهما، وحيث إن المحدثين اعتنوا بهذا الباب عناية فائقة، يدل عليها كثرة المؤلفات في هذا الباب، فقد رأيت أن أتناول بالدراسة والبحث العناصر التي يهتم بإبرازها أهل الحديث في مؤلفاتهم، وذلك لما يترتب على درايتها من محاولة إعادة صياغة متكاملة للمنهجية التي يمكن أن تبنى عليها الموسوعات الخاصة بعلم تراجم رواة الحديث النبوي، فهي عناصر يهتم بإيرادها المحدثون، دون التزام بها لدى جميعهم، وإنما تبرز بشكل ظاهر عند الدراسة التفصيلية لحياة راو أو علم من المحدثين، فأحاول جمع شتات ما يذكرونه في مؤلفاتهم، مع محاولة بيان الفائدة التي تؤخذ من كل عنصر من هذه العناصر، وقد عنونت لهذا البحث بعنوان: "عناصر تراجم الرواة عند المحدثين"
وسرت في هذا البحث وفق الخطة التالية:
• المقدمة.
• التمهيد.
• مقارنة بين منهج المحدثين والمناهج الأخرى عند من يصنف في الأعلام.
• عناصر الترجمة عند المحدثين.
• الخاتمة.
• المصادر والمراجع.
• فهرس الموضوعات.
وإني أسأل الله جل وعلا أن ينفع بهذا البحث من كتبه ومن قرأه، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله مساهمة مباركة في خدمة سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كما آمل من كل من قرأه وتأمله أن لا يبخل علي بما لديه من ملحوظات ومرئيات، وما يراه من مقترحات وتوجيهات، فإن المسلم ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه، و" رحم الله امروءً أهدى إليَّ عيوبي[1]".وقد بذلت فيما عملت جهدي، واستغرقت وسعي، وحرصت على تحري الإصابة حسب الجهد والطاقة، فما كان فيه من صواب فمن توفيق الله عز وجل وتسديده، وما كان فيه من زلل أو تقصير فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه براء، وأسأل الله عفوه ومغفرته.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهـيد
علم تراجم الرواة ومعرفة الرجال، من أهم المعارف والعلوم التي يضطلع بها أهل الحديث ويعتنون بها، ولذلك كانت المؤلفات في هذا الباب كثيرة جداً، ومتنوعة المناهج والتصنيف، وجاءت عبارات الأئمة في بيان أهمية معرفة الرواة صريحة وواضحة، ولعل إلماحة سريعة إلى ذلك تبين لنا أهمية هذا العلم عند المحدثين، فإن الناظر في المصنفات في علوم الحديث خاصة، يجد أنواعاً كثيرة من أنواع علوم مصطلح الحديث؛ تختص بمناقشة وتحقيق مسائل تتعلق بتراجم رواة الحديث، ولننظر سريعاً إلى عناوين بعض هذه الأنواع من خلال مؤلفات الأئمة الكبار في هذا العلم؛ لنرى مقدار العناية والاهتمام التي أولاها أئمتنا لهذا العلم والتقعيد له، ولعلنا أن نكتفي في ثنايا البحث ببعض ما ذكره الإمام ابن الصلاح؛ تقي الدين، أبو عمر، عثمان بن عبدالرحمن في كتابه "علوم الحديث " المعروف بمقدمة ابن الصلاح، حيث ذكر أنواعاً كثيرة من علوم الحديث تتعلق مباشرة بالتراجم لنقلة الأخبار وتمييزهم، كما أنه ذكر أنواعاً أخرى مرتبطة بمعرفة الرواة، ودراية حالهم؛ كالجرح والتعديل، واتصال الإسناد بينهم، وما يبين حالهم من حيث الضبط، وعدم التدليس، ونحو ذلك. وهو واقع يبيِّن مقدار الاهتمام من علماء الإسلام؛ وأهل الحديث منهم خاصة بهذا العلم، وهي صورة موثقة ظاهرة.
وهذا العلم الذي اعتنى به أهل الحديث خاصة كانت نشأته، منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما أنزل الله تعالى قرءاناً يتلى إلى يوم القيامة وفيه التنبيه على ضرورة معرفة نقلة الأخبار، كما في قول الله جل وعلا[2]: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين ﴾.
ثم بعد عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بزمن يسير، وحينما أحس علماء الإسلام بما قد يلحق المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام من الدس والتلفيق والكذب والزور؛ نشأ هذا العلم كقاعدة في تلقي الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في خبر ابن عباس - رضي الله عنهما - فعَنْ طَاوُس[3] - رحمه الله تعالى - قَالَ: جَاء هَذَا إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ (يَعَنِي بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ) فَجَعَلَ يُحَدّثُهُ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ. ثُمّ حَدّثَهُ. فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيث كَذَا وَكَذَا. فَعَادَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ. مَا أَدْرِي، أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلّهُ وَأَنْكَرْتَ هَذَا؟ أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلّهُ وَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: إِنّا كُنّا نُحَدّثُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ. فَلَمّا رَكِبَ النّاسُ الصّعْبَ وَالذَلُولَ، تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ.
وفي رواية لمسلم أيضا، عَنْ مُجَاهِدٍ - رحمه الله تعالى - قَالَ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيّ إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ فَجَعَلَ يُحَدّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَجَعَلَ ابْنُ عَبّاسٍ لاَ يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبّاسٍ! مَا لِي لاَ أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ تَسْمَعُ. فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إِنّا كُنّا مَرّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمّا رَكِبَ النّاسُ الصّعْبَ، وَالذّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النّاسِ إِلاّ مَا نَعْرِفُ.
وروى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه[4] عَنِ محمد بْنِ سِيرِينَ قَالَ: لم يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ. فَلَمّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السّنّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ.
واستمر العمل على هذا، وظهرت المصنفات في جمع رواة الحديث النبوي خاصة؛ بسبب ضرورة معرفة حال نقلة الأخبار النبوية، وذلك لما ينبني على هذه المعرفة من قبول الأخبار، والتعبد بما فيها لله تعالى، أو رد تلك الأخبار والحذر من اعتبارها ديناً.
مقارنة بين منهج المحدثين ، ومناهج المؤرخين وكتاب السير:
قبل التعرض لمقصد البحث أحببت أن أبين وجهاً من أوجه التمايز في هذا الباب بين المحدثين ومن سواهم ممن يصنف في باب التعريف بالإعلام والتوريخ لسير العلماء والعظماء وغيرهم، فلعل عرض هذه المقارنة بين مناهج العلماء المصنفين في باب تراجم الأعلام، من الوسائل التي تكشف أهمية دراسة منهج المحدثين استقلالاً في مسألة دراية قيمة وفائدة معرفة عناصر ترجمة نقلة الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أن المنهج العلمي في التصنيف في هذا الباب عند المحدثين وعند غيرهم مختلف بشكل ظاهر، بدأً من نوعية الأعلام المترجَمين؛ حيث يختص منهج أهل الحديث بفئة من رجال الأمة ونسائها، كانت لهم عناية برواية سنة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فهو لا يتناول بالدراسة كل علماء الإسلام، وإنما يعنى فقط بنقلة الأخبار النبوية، وأما مناهج غيرهم فهي في الأصل عامة لكل أحد، إذ تتناول الأعلام بشكل عام غالباً؛ ممن كان لهم دور ظاهر في صنع أحداث الحياة، أو ممن كان لهم من المكانة المالية، أو المنزلة الاجتماعية، أو السطوة السياسية ما أهَّلهم للذكر والتعريف.
ولعلنا نعرض هنا لذكر شيءٍ مما تتميز به كتب الرواة عند المحدثين، عن كتب التراجم عامة، فأقول - مستعيناً بالله تعالى -:
لا شك أن المقارنة بين نوعين من التصنيف تحتاج إلى دراسة تفصيلية استقرائية فاحصة، ولكن حسبي أن أشير إلى ذلك مختصراً؛ إذ ليس هو مقصد الدراسة هنا.
إن من أظهر الأسباب في الاختلاف بينها؛ السبب الذي صنف من أجله كل نوع، فكتب التراجم العامة والوفيات تعنى بسير الأعلام وحياتهم، بينما كتب تراجم الرواة تعنى ببيان حال الرواة، ومقدار الاطمئنان لنقلهم من عدمه، فلذا كان الاختلاف ظاهراً.
فمن أهم ما تتميز به كتب الرواة عن كتب الأعلام العامة، عنايتها ببيان شخصية الراوي، والتدقيق في تمييزه عن غيره ممن قد يشابهه؛ وذلك بذكر الاسم رباعياً أو أزيد من ذلك، وذكر الكنى والأنساب والألقاب التي ورد ذكرها مصاحبة لروايته في كتب السنة، والعناية كذلك بذكر شيوخه وتلاميذه مع محاولة الاستيعاب لكل راوٍ منهم، مع التمييز لنوع التحمل بينهما، وكذا العناية بأقوال النقاد، من أئمة الحديث المختصين بذلك، في بيانهم لحال الراوي من حيث العدالة في الدين والسلوك، والضبط في الصدر أو الكتاب، ثم يعنون أيضاً بذكر رحلاته وتنقلاته، وحاله آخر حياته؛ من حيث الضبط وعدمه، ثم يوردون التحقيق في زمن وفاته ومكانها، ويذكرون غالباً كتب السنة التي وردت روايات له فيها.
وهذه الأوجه التي ذكرنا، جاءت على الغالب وليست مطردة في كل مصنف لأهل الحديث.
وفي الجانب الآخر؛ يغفل المصنفون في تراجم الرواة، ما يرد في سيرة الراوي من المواقف والبطولات والشجاعة والزهد والعبادة، وما برز فيه من أعمال، وغيرها مما تمتلئ به كتب التراجم العامة؛ التي قد يكون ذلك عمدتها وأساس تصنيفها، وقد أشار لذلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في مقدمته لكتابه الحافل تهذيب التهذيب[5]، حيث قال بعدما بين أهمية تهذيب الكمال للإمام المزي، وما كان من عمل للإمام الذهبي، وأنه لم ير أن المراد من التصنيف في باب النقد للرواة محتاج لبعض ما ذكروه، فقال: ثم رأيت للذهبي كتاباً سماه "تذهيب التهذيب" أطال فيه العبارة، ولم يعد ما في التهذيب غالباً، وإن زاد ففي بعض الأحايين، وفيات بالظن والتخمين، أو مناقب لبعض المترجمين، مع إهمال كثير من التوثيق والتجريح، الذين عليهما مدار التضعيف والتصحيح،... فاستخرت الله تعالى في اختصار التهذيب على طريقة أرجو الله أن تكون مستقيمة؛ وهو أنني اقتصر على مايفيد الجرح والتعديل خاصة، وأحذف منه ما أطال به الكتاب، من الأحاديث التي يخرجها من مروياته العالية، من الموافقات والأبدال، وغير ذلك من أنواع العلو؛ فإن ذلك بالمعاجم والمشيخات أشبه منه بموضوع الكتاب، وإن كان لا يلحق المؤلف من ذلك عتاب، حاشا وكلا، بل هو والله العديم النظير، المطلع النحرير، لكن العمر يسير، والزمان قصير، فحذفت هذا جملة، وهو نحو ثلث الكتاب.ا.هـ.
فلعلي بهذا المقال الموجز قد بينت على وجه الإجمال الاختلاف بين النوعين، والفرق بين المنهجين، والله تعالى أعلى وأعلم.
عناصر الترجمة عند المحدثين:
لا شك أن لكل مؤلف هدف من تأليفه ومقصد من تصنيفه، وإن من يصنف في تراجم أعلام رواة الحديث النبوي يهدف للقيام بخدمة عظيمة لسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومما يحقق مقصد من يصنف في هذا الباب أن يتضمن كتابه مسائل مهمة وعناصر رئيسة لا بد منها لتحقيق الهدف وتلبية الغاية من التأليف، ولهذا فإن عناصر تراجم الرواة في كتب الرواة تتفق في الجملة على أسس رئيسة منها، ولكنها تتفاوت في مقدار وجود هذه العناصر في كل مصنف وعند كل راوٍ؛ وذلك بحسب منهج المؤلف وما هدف لتحقيقه، وبحسب ما يقف عليه المؤلف من البيان حول ترجمة الراوي.
فقد يقف على عناصر في ترجمة ولكنه لا يجدها في آخر، وقد يقصد للاختصار في نوع من هذه العناصر لسبب يراه، أو يكون مؤلفه مختصراً؛ اكتفى فيه مصنفه على غاية واحدها قصد إليها، ولم يرد الاستيعاب في بيان جوانب الترجمة كلها، لهذا فإن ما أذكره هنا من عناصر التراجم ليس متوافراً في كل مصدر ولا متفقاً على التقيد بإيراده عند كل مؤلف، ولكنها عناصر تساعد في تحرير القول في الراوي، ويتمنى الباحث أن يجدها في كل ترجمة، فهدفت في بحثي هذا إلى بيان قيمة هذه العناصر وفائدتها، وأهميتها في بيان حال الراوي المترجم، وأيضاً هدفت إلى الدلالة على منهجية مهمة ينبغي للأمة حين التصدي لخدمة هذا لعلم - علم تراجم الرواة- أن تعتني بها، وأن تحرص على استيفائها في كل ترجمة ما أمكنها إلى ذلك سبيلا.
وسأتناول هنا أظهر العناصر في ذلك عند أهل الحديث، مع بيان المراد من كل عنصر وفائدته، مع الإشارة إلى أنني سأعرض في ذكر الفوائد إلى جوانب مهمة يستحضرها الناظر في التراجم وإن لم يكن لها تعلق مباشر ببيان حال الراوي، وهي فوائد تربي النفس وتصقل القلب وتقوي الإيمان وتذكر بالله رب العالمين.
إن أهم عناصر التراجم التي يهتم لها المحدثون ما يلي: الاسم وتوابعه، والعصر الذي عاش فيه المتَرْجَم، ورحلاته، والشيوخ والتلاميذ والأقران، وأقوال الأئمة فيه جرحاً أو تعديلاً، وسنة الوفاة ومكانها، ومن روى له من أصحاب الكتب المعتبرة.
أولاً: الاسم وتوابعه:
وذلك بذكر الأب والجد فمن فوقه من آباء الراوي، والكنية واللقب والنسبة؛ من نسبته لقبيلة أو لبلد أو لحرفة ونحو ذلك، فتساق كل الألقاب التي نعت بها، وكل ما وقف عليه المترجِم من كنية أو نسبة للراوي وردت عنه أو في رواياته.
وفائدة معرفة هذا العنصر، تمييز الراوي، حتى لا يشتبه مع غيره ممن قد يشابهه في بعضها، فلذلك يحرص المحدث الناقد على الإتيان بهذه العناصر، لأهميتها، ولعل ما حصل للإمام محمد بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى –؛ حيث تشابه في اسمه مع آخر هو: محمد بن جعفر بن رستم الطبري، صاحب كتاب " دلائل الإمامة "، وهو رافضي، تشابه مع ابن جرير المفسر في الاسم واسم الأب والنسبة والوفاة مكاناً وزماناً، مما أدى لاتهام المفسر ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - باتهامات هو منها براء، كما قال د. محمد الزحيلي في ترجمته للمفسر أبي جعفر - رحمه الله -: فالقراءة في كتب التراجم تعين على تصحيح هذا الفهم الخاطئ[6].اهـ.
فأقول: لعل ذلك أن يكون دليلاً واضحاً، يبين أهمية العناية بهذا العنصر. وقد كانت عناية الأئمة بتمييز الرواة وإزالة الإلباس في اشتباه بعضهم ببعض ظاهرة، وإن مطالعة سريعة لكتب معرفة الرواة تدلل على ذلك بجلاء، ففي تذكرة الحفاظ[7] قال القيسراني - رحمه الله تعالى - في ترجمة عبدالكريم بن مالك الجزري الحافظ الفقيه أبو سعيد الحراني، بعدما ذكر؛ عبدالكريم بن أبي المخارق أبو أمية: وهو من طبقته وسميه فذكرته معه للتمييز.اهـ. وفي السير[8] ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في ترجمة رافعِ بنِ عمرو الغفاري، رافعَ بنَ عمرو المزني البصري، وقال: هو آخر... ذكرته للتمييز.اهـ. وفي ترجمة عبدالله بن الزبير بن عبدالمطلب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السير[9] قال الذهبي: وإنما ضممت هذا البطل إلى البطل الذي قبله؛ لاشتراكهما في الاسم والشجاعة، ثم قال: فأما عبدالله بن الزبير، فهو الأسدي شاعر مشهور له نظم بديع... ذكرته للتمييز.اهـ.
وذكر في ترجمة حجاج بن أرطاة[10] سبعة كلهم باسم حجاج ثم قال: فهؤلاء السبعة كانوا بالعراق في عصر حجاج بن أرطاة؛ ذكرناهم للتمييز وثم جماعة كانوا في زمانهم بأسمائهم ولكنهم ليسوا بالمشهورين والله أعلم اهـ.
وقال في السير[11]: ذكرت هذين للتمييز فالثلاثة متعاصرون كبار، وفي أهل العلم جماعة محمد بن حاتم لكنهم اصغر من هذه الطبقة.اهـ. وفي الميزان[12] ذكر عالماً بالهندسة والحساب والنجوم والسحر وغير ذلك، ثم قال: وإنما ذكرته للتمييز لأنه ما بينه وبين أهل الحديث النبوي معاملة. اهـ. وقال[13]: وفي هذه الطبقة جماعة ممن يسمي إبراهيم بن عقبة فلنذكرهم للتمييز.اهـ[14].
وجاء نحو ذلك في تهذيب الكمال، وقد صدَّر عدداً كبيراً من تراجمه بكلمة: "تمييز"[15]، ليميزه عن غيره من رجال الأصل، وليبين أنه أورده حتى لا يلتبس حاله بحال غيره من رجال الأصل، والحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - قد اعتنى بذلك في مختصره العظيم تقريب التهذيب[16]، حيث اعتنى بهذه المسألة، وأولاها اهتماماً خاصاً؛ مع اختصار كتابه، وإن كان قد عني بها في أصل مختصره؛ أي في كتابه تهذيب التهذيب[17].
ولم يكتف الأئمة بذلك بل صنفوا ما يميز به بين الرواة المتشابهين في الاسم والنسبة والطبقة ونحو ذلك، فذكروا في مصنفات لهم أصحاب الأسماء المتشابهة ليميز كل واحد منهم عن غيره. فمن ذلك كتاب: الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، تأليف الأمير الحافظ علي بن هبة الله أبي نصر بن ماكولا - رحمه الله تعالى -، وعنوانه دال على محتواه.
وغير ذلك من المصنفات التي تتناول هذا الباب، وهي كثيرة ومتنوعة.
ولعل من كانت له مطالعة في كتب المصطلح يلحظ مقدار العناية ببيان ما يتميز به كل راوٍ عن غيره؛ إزالة للالتباس وحياطة للسنة المشرفة. ففي كتاب علوم الحديث لابن الصلاح، كانت الأنواع التالية، وكلها متعلقة بهذا الباب:
النوع: (48): معرفة من ذكر بأسماء مختلفة أو نعوت متعددة فظن من لا خبرة له بها أن تلك الأسماء أو النعوت لجماعة متفرقين.
والنوع: (50): معرفة الأسماء والكنى.
والنوع: (51): معرفة كنى المعروفين بالأسماء دون الكنى.
والنوع: ( 52): معرفة ألقاب المحدثين ومن يذكر معهم، ومعرفة المتفق والمفترق من الأسماء والأنساب ونحوها.
والنوع: (55): نوع يتركب من النوعين اللذين قبله.
والنوع: (56): معرفة الرواة المتشابهين في الاسم والنسب المتمايزين بالتقديم والتأخير في الابن والأب.
والنوع: (57): معرفة المنسوبين إلى غير آبائهم.
ثانياً: عصره:
فيهتم الناقد بمعرفة العصر الذي عاش فيه المترجَم، ومَن مِن الأئمة عاصره وأمكنه اللقاء به، والرواية عنه، وما الأحداث التي وقعت فيه، فيستفاد من ذلك فوائد عديدة منها:
(أ) تحقق شرط الاتصال أو عدمه.
(ب) معرفة تأثير عصره وأحداثه عليه، وهل تأثرت عدالته أو ضبطه بأحداث عصره ؟ إذ نجد من المحدثين من تُكلم فيه بسبب دخوله في العمل في الشُّرَط مثلاً، أو مجالسة السلاطين والمترفين والغافلين، أو سوء تعامله في البيع والشراء إن كان يعمل في ذلك مثلاً، وغيرها مما يؤثر في عدالته. أو أن يكون حدث له ما أخل بضبطه كاختلاطه مثلاً بسبب ما وقع له من احتراق كتبه، أو أنه ابتلي بابن عاق أو وراق فاسد يدس في حديثه ما ليس منه، ونحو ذلك.
(ت) معرفة دوره في عصره، ومدى علاقة المترجَم بالمجتمع، وتأثيره فيه، وتفاعله مع أحداثه، وتأثره به، وصنعه للمواقف فيه.
(ث) معرفة مدى تأثير أحداث عصره في شخصيته، ونظرته للحياة، وفي اهتماماته ومصنفاته ومواقفه وأقواله.
(ج) يستفاد من معرفة عصره في وضوح العلاقة بين بعض الاهتمامات الصغيرة والجانبية؛ التي يوليها المترجَم عناية خاصة وكبيرة في أقواله ومؤلفاته، وبين وقائع العصر وأحداثه، فقد تكون سبب اهتمامه بها، وتركيزه عليها.
ثالثاً: رحلاته:
الرحلة في طلب الحديث مهمة عني بها المحدثون وسلف هذه الأمة، فرحل أولئك الأعلام في البحث عن علم النبوة ونور الحكمة، وللتأكد من صحة النقل عن النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، بدءاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم جميعا -، ومروراً بكل أئمة الحديث ونقلة السنة المشرفة، وقلَّ أن تقف على ترجمة لراوٍ من الرواة المعروفين بهذا العلم؛ إلا وتجد له من ذلك نصيبا، وكان من عنايتهم بها أن صنفوا فيها؛ ككتاب الخطيب البغدادي " الرحلة في طلب الحديث "، أو اعتنوا بها في أثناء كتبهم. والله سبحانه وتعالى قد حث على طلب العلم والرحلة فيه، وبيّن أهمية الفقه في الدين القائم على ذلك؛ كما في قوله جل وعلا[18]: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾، وكان الوعد الرباني والثناء النبوي دافعاً للرحلة ومحبباً لها، وسبباً قوياً للقيام بها، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ[19] رضي الله عنه وفيه: أنه قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ...."، وفي حديث آخر من رواية أبي الدرداء[20] رضي الله عنه، فعن قَيْسِ بنِ كَثِيرٍ قالَ: "قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ المَدِينَةِ عَلَى أَبي الدّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي؟ فقالَ حَدِيثٌ بَلَغَنيِ أَنَكَ تُحَدِثُهُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ؟ قالَ لاَ. قالَ أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قالَ لاَ. قالَ مَا جِئتُ إِلاّ في طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ. قالَ: فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي فِيِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنّةِ، وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتّى الْحِيتَانُ في المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إنّ الاْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِر".
وساق الخطيب البغدادي[21] رحمه الله؛ بسنده خبراً عجيباً، عن حرص الأئمة وعنايتهم وعنائهم؛ من أجل التحقق من صحة الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف يتتبع بعضهم الخبر ليتحقق منه، ويتأكد من سلامة نقله، فيذكر موقفاً عن أحد رواة السنة النبوية؛ مؤمل بن إسماعيل البصري، جاء فيه أن محمود بن غيلان قال: سمعت المؤمل ذكر عنده الحديث الذي يروى عن أبي – يعني بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن، فقال: لقد حدثني رجل ثقة سماه، قال حدثني رجل ثقة سماه، قال: أتيت المدائن فلقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث، فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي البصرة، فقال هذا الرجل الذي سمعناه منه، هو بواسط في أصحاب القصب، قال: فأتيت واسطاً، فلقيت الشيخ، فقلت: إني كنت بالمدائن، فدلني عليك الشيخ، وإني أريد أن آتي البصرة، قال: إن هذا الذي سمعت منه هو بالكلاء، فأتيت البصرة فلقيت الشيخ بالكلاء، فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي عبادان، فقال: إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعبادان، فأتيت عبادان فلقيت الشيخ، فقلت له: اتق الله؛ ما حال هذا الحديث؟ أتيت المدائن..فقصصت عليه ثم واسطا ثم البصرة فدللت عليك، وما ظننت إلا أن هؤلاء كلهم قد ماتوا، فأخبرني بقصة هذا الحديث، فقال: إنا اجتمعنا هنا، فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، وزهدوا فيه وأخذوا في هذه الأحاديث، فقعدنا فوضعنا لهم هذه الفضائل، حتى يرغبوا فيه.
وكان من أهم فوائد ذكر رحلات المترجَم ما يأتي:
(أ) التثبت من الأخبار، ومعرفة مدى ثبوتها عمن نقلت عنه من عدمه، والتحقق من ذلك، والوقوف على الروايات عن الأئمة الإثبات الذين تضرب من أجل لقائهم أكباد الإبل، فعن أَبي هُرَيْرَةَ[22] رِوَايَةً: " يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النّاسُ أَكْبادَ الإِبِلِ يَطْلُبُونَ العِلْمَ فَلاَ يَجِدُونَ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ". فكأنها قضية متأصلة في النفوس من لدن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأخرج الخطيب[23] بسنده عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه قال: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
وروى البخاري ومسلم[24] من حديث صَالِح بْن حَيٍّ أَبُي حَسَنٍ أنه قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة. ويقول الإمام يحيى بن معين رحمه الله: (أربعة لا يؤنس منهم رشداً، فذكر منهم: رجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث).
(ب) ومن فوائدها: طلب علو الإسناد. قال الحافظ[25] -رحمه الله-: في حديث جابر دليل على طلب علو الإسناد، لأنه بلغه الحديث عن عبدالله بن أنيس، فلم يقنعه حتى رحل فأخذه عنه بلا واسطة.ا.هـ.
وأخرج الخطيب[26] عن أبي العالية قال: كنا نسمع عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم.
(ت) ومنها: أن نعرف عظم مكانة ما يرحلون من أجله في قلوبهم، سنة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فبسبب حرصهم على السنة، وعنايتهم بها كانت رحلتهم من أجلها، وإلا فما الذي دفعهم لذلك مع قلة الإمكانيات، وضيق ذات اليد وانقطاع السبل، وطول العناء وبعد الشقة، إلا محبتهم لما يرحلون في طلبه، ومكانته في نفوسهم، وهذا الأمر يلقي بالمسؤولية العظيمة على الأمة أن تعتني بهذا النور النبوي، وأن تحرص عليه، وأن تتدبر أن أولئك الأفذاذ ما ضحوا بجهدهم وسلامتهم إلا لأجل أمر عظيم يستحق النصب والتعب والعناء، فما حجة ضعفنا في طلب علم الشريعة مع توافر الإمكانات وتيسر السبل، وتوافر الوسائل.
(ث) ومن الفوائد أيضاً: إدراك عظم مكانة أولئك الأعلام الذين رحلوا، ومدى صدقهم وإيمانهم وقوة صبرهم وإخلاصهم، وعلو همتهم، وسعة علمهم، وقوة عزيمتهم.
(ج) ومنها: حرصهم على الأخذ عن أكبر عدد من الشيوخ، وذلك يفيد في تمكن الراوي من السنة، وضبطه لطرقها ورواياتها وألفاظها، بل والوقوف على روايات ليست لدى شيوخ بلده، قال عبدالله[27] بن الإمام أحمد: سألت أبي رحمه الله عمن طلب العلم؛ ترى له أن يلزم رجلا عنده علم كثير فيكتب عنه، أو ترى أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم ؟ قال: يرحل، يكتب عن علماء الأمصار، فيشافه الناس ويتعلم منهم.
(ح) ومنها التحقق من اتصال الإسناد بين الراوي وشيخه، إذا علم أنهما رحلا في وقت إلى بلد كذا، أو أنهما التقيا في الرحلة في بلد كذا.
(خ) ومن الفوائد معرفة مقدار سعة علم المترجَم، وشمولية فهمه ومعرفته بواقع الناس وأحوالهم وطبائعهم وأعرافهم؛ فيكون الاستنباط عنده من نصوص الشريعة واضحاً، ينطلق فيه من فهم واسع، وشمولية في المعرفة بالواقع، فكما يقال بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يغيب عن الذهن أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى – له فقهان، قديم وجديد، والسبب في وجود ذلك ما رآه من تغير طباع الناس ونظرتهم بين بلد وآخر؛ بين مصر والعراق. في الحلية[28]: قال محمد بن مسلم بن واره: قلت لأحمد: ما ترى في كتب الشافعي؛ التي عند العراقيين أحب إليك، أو التي عندهم بمصر؟. قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق، ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذاك ثَمَّ.
تقول الأستاذة درية العيطة[29]: أصبح محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، الذي آلت إليه رياسة الفقه في العراق أستاذاً للشافعي، تلقى عنه فقه أهل الرأي، ولما كان الشافعي - رحمه الله تعالى - قد أخذ فقه أهل الحديث عن مالك، الذي آلت إليه رياسة الفقه في المدينة؛ فقد خرج من هذين المذهبين بمذهب يجمع بينهما، وهو مذهبه القديم المسمى بكتاب الحجة (رواه عنه العديد من العلماء، وكان الزعفراني أتقنهم له رواية وأحسنهم له ضبطاً)، ثم قفل عائدا إلى مكة وفي جعبته علوم أهل الأرض في ذلك العصر، بعد أن مضى عامان على إقامته في بغداد، وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي، والتقى به أكبر العلماء في موسم الحج، فكانوا يرون فيه عالما هو نسيج وحده، وفي هذه الأثناء التقى به أحمد بن حنبل، قال اسحق بن راهويه: "لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعال أريك رجلا لم تر عيناك مثله، فأراني الشافعي. قال: فتناظرنا في الحديث فلم أر أفقه منه، ثم تناظرنا في القرآن فلم أر اقرأ منه، ثم تناظرنا في اللغة وما رأت عيناي مثله قط" ومكث في مكة تسع سنوات كاملة - وهو الذي عهدناه صاحب سفر وترحال - ليصفوا له الجو لاستخراج قواعد الاستنباط بعيدا عن ضوضاء العراق وتناحر الآراء فيها، وألف كتاب الرسالة في علم أصول الفقه.
ثم ارتحل ثانية إلى بغداد، وقد سبقته شهرته إليها، وتحدث بذكره المحدثون والفقهاء، ولقب فيها بناصر الحديث، وأخذ ينشر آراءه الفقهية الأصولية. وعقد في الجامع الغربي في بغداد حلقات العلم والفقه، وأمَّه المتعلمون والعلماء، حتى حمل العلماء على الإقرار بعلمه، وظهر أمره بين الناس.
وتكررت رحلاته بين مكة وبغداد، وكانت خاتمة رحلاته إلى مصر التي كان الدافع إليها ميله للابتعاد عن مركز الخلافة والسياسة، وذلك بناء على دعوة والي مصر له، وانتهى به المطاف هناك، وأملى مذهبه الجديد في كتابه "المبسوط" الذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب الأمر وأعاد النظر في آرائه وكتبه ومؤلفاته، فجدد بعضها، ونسخ بكتابه المصري كتابه البغدادي، وقال رضي اللّه عنه: "لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي".ا.هـ. فهذا مثال لتأثير الرحلة ومخالطة أصناف الناس على اختلاف عاداتهم وتصوراتهم، في فهم العالم وإدراكه لمقاصد الشريعة.
رابعاً: معرفة شيوخ الراوي وأقرانه وتلاميذه:
لقيت هذه العناصر عناية خاصة من المؤلفين في تراجم الرواة، ولعل نظرة للأنواع المتعلقة بذلك في كتاب مثل مقدمة ابن الصلاح؛ يبين لنا مقدار العناية والاهتمام به، فمن ذلك:
النوع: (41): معرفة الأكابر الرواة عن الأصاغر.
والنوع: (42): معرفة المدبج وما عداه من رواية الأقران بعضهم عن بعض.
والنوع: (43): معرفة الإخوة والأخوات من العلماء والرواة.
والنوع: (44): معرفة رواية الآباء عن الأبناء.
والنوع: (45): معرفة رواية الأبناء عن الآباء.
والنوع: (46): معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان.
والنوع: (47): معرفة من لم يرو عنه إلا راو واحد.
ويلحظ من ذلك الدقة في التبويب، ومحاولة التمييز بين الرواة، فيما قد يشكل على الناظر في أسانيد الأخبار.
وقد كان الاهتمام بذلك ظاهراً لعظم فوائده كما سنذكر، وإن كان الحافظ ابن حجر في مقدمة التهذيب[30] قال بعدم جدوى استيعاب الشيوخ أو التلاميذ، لتعذره حيث قال: (ثم إن الشيخ رحمه الله -يعني الإمام المزي- قصد استيعاب شيوخ صاحب الترجمة واستيعاب الرواة عنه ورتب ذلك على حروف المعجم في كل ترجمة وحصل من ذلك على الأكثر، لكنه شيء لا سبيل إلى استيعابه، ولاحصره؛ وسببه انتشار الروايات وكثرتها، وتشعبها وسعتها، فوجد المتعنت بذلك سبيلاً إلى الاستدراك على الشيخ بما لا فائدة فيه جليلة ولا طائلة، فإن أجلَّ فائدة في ذلك هو في شيء واحد؛ وهو إذا اشتهر أن الرجل لم يرو عنه إلا واحد، فإذا ظفر المفيد له براو آخر، أفاد رفع جهالة عين ذلك الرجل برواية راويين عنه، فتتبع مثل ذلك والتنقيب عليه مهم، وأما إذا جئنا إلى مثل سفيان الثوري وأبي داود الطيالسي ومحمد بن إسماعيل وأبي زرعة الرازي ويعقوب بن سفيان - رحمهم الله تعالى - وغير هؤلاء؛ ممن زاد عدد شيوخهم على الألف، فأردنا استيعاب ذلك، تعذر علينا غاية التعذر، فإن اقتصرنا على الأكثر والأشهر بطل ادعاء الاستيعاب، ولا سيما إذا نظرنا إلى ما روى لنا عن من لا يدفع قوله، أن يحيى بن سعيد الأنصاري راوي حديث الأعمال، حدث به عنه سبعمائة نفس، وهذه الحكاية ممكنة عقلا ونقلا، لكن لو أردنا أن نتبع من روى عن يحيى بن سعيد فضلا عن من روى هذا الحديث الخاص عنه، لما وجدنا هذا القدر، ولاما يقاربه، فاقتصرت من شيوخ الرجل ومن الرواة عنه إذا كان مكثرا على الأشهر والأحفظ والمعروف) اهـ.
أقول وبالرغم من ذلك إلا أن فائدة محاولة الجمع لأكبر عدد من شيوخ الراوي أو تلاميذه مهمة جداً، وتفيد كثيراً في بيان حاله وحال روايته، وما سنذكره من فوائد لهذا تعتبر من أقوى الدلائل على ذلك.
وهذا العنصر، من العناصر الرئيسة في التراجم عند المحدثين، لأن معرفة أولئك تبين حال المترجَم، وتوضح واقعه ومكانته، من حيث العدالة والضبط، والعلم والفقه والفهم، ولعل من أهم فوائدمعرفة الشيوخ والتلاميذ ما يلي:
(أ) استيضاح حال السند من حيث الاتصال وعدمه، فإذا روى عن شيوخه فروايته غالباً متصلة مقبولة؛ إلا ما قد يُعلُّ بتدليس ونحوه، وإن كانت عن غيرهم فهي ضعيفة مردودة.
(ب) رفع الجهالة عن المترجَم، ومعرفة عينه، كما ذكر الحافظ[31] رحمه الله تعالى قال: إن أجل فائدة في ذلك – أي في ذكر الشيوخ للمترجَم - هو في شيء واحد وهو إذا اشتهر أن الرجل لم يرو عنه إلا واحد، فإذا ظفر المفيد له براو آخر، أفاد رفع جهالة عين ذلك الرجل، برواية راويين عنه فتتبع مثل ذلك والتنقيب عليه مهم.ا.هـ.
(ت) معرفة مدى تأثيرهم عليه في علمه ومعرفته ونباهته واهتماماته، فلاشك أن الشيخ إذا كان صاحب منهج معين، في المعتقد أو الفقه أو السلوك، أو التخصص العلمي؛ فإن أثره يظهر على طلابه، ولا يغيب عن الذكر أن أساس توجه العالم ومعرفته، والسبب الرئيس في كثير من دراساته سببه الشيوخ وتأثيرهم عليه، فهذا الإمام البخاري - رحمه الله تعالى –، تتجلى في ترجمته آثار شيوخه، فمثلاً؛ ما الدافع له لجمع الكتاب الذي فاق كل كتب الإسلام مكانة وقدراً – عدا كتاب الله تعالى – ؟!. كان أحد أهم الأسباب التي دفعته لذلك ما كان أمنية لشيخه ابن راهويه - رحمه الله -، يقول الحافظ ابن حجر في الهدي[32]؛ في ذكر الباعث للبخاري على تصنيف كتابه: وقوَّى عزمه على ذلك، ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه... وساق إسناده إلى البخاري: قال أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري كنا ثَمَّ إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح.
أما فائدة معرفة الأقران للعَلم المترجَم، فمنها:
(أ) الدلالة على قدرِهِ ومعرفة مكانته، حيث برز مع وجود أعلام عظام من أقرانه مثلاً؛ إن كان في عصر مليء بالأعلام الكبار، أو أنه برز لمَّا لم يوجد في عصره إلا حطمة الناس، فظهور شخصية العالم بين كبار العلماء، يميزه ويدل على فضله، بخلاف بروزه في عصر يقل فيه أهل العلم الذي يعتني به، فلا يكون له ميزة بذلك الظهور غالباً.
(ب) معرفة الأقران تفيد في الحذر من أخذ كلام بعضهم في بعض، لأن كلام الأقران لا يعتبر به، ولا يكون مقياساً في الحكم على العالم، كما هو مقرر عند الأئمة، وقد تكلم الأئمة في هذا بكلام جميل وبين وطويل؛ وقفت على أكثره مبثوثاً في تراجم الأعلام في كتبهم، فمن ذلك:
قال الحافظ محمد بن طاهر القيسراني[33]- رحمه الله تعالى - في ترجمة الحافظ مُطين -رحمه الله -: فلا يلتفت إلى كلام الأقران بعضهم في بعض بكل حال. وفي ترجمة أبي بكر ابن أبي داود - رحمه الله -قال[34]: لا يسمع قول ابن جرير فيه؛ فإن هؤلاء بينهم عداوة بينة، فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض. وقال الذهبي[35] - رحمه الله تعالى - في ترجمة قتادة بن دعامة - رحمه الله -: قلت: كلام الأقران يطوى ولا يروى، فإن ذكر تأمله المحدث، فإن وجد له متابعاً وإلا أعرض عنه. وفي ترجمة محمد بن إسحاق - رحمه الله -، وكلام الإمام مالك - رحمه الله - عنه قال[36]: قلت: لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة، وقد علم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به، ولا سيما إذا وثَّق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف، وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه، لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، وارتفع مالك وصار كالنجم، فله ارتفاع بحسبه ولا سيما في السير.
وقال في ترجمة الإمام الشافعي[37]- رحمه الله -: قلت: كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يلتفت إليه بل يطوى ولا يروى. وفي ترجمة هشام بن عمار - رحمه الله - قال[38]: وبكل حال كلام الأقران بعضهم في بعض يحتمل، وطيه أولى من بثه؛ إلا أن يتفق المتعاصرون على جرح شيخ، فيعتمد قولهم. وقال[39]: وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض؛ينبغي أن يطوى ولا يروى، ويطرح ولا يجعل طعنا، ويعامل الرجل بالعدل والقسط.
وفي لسان الميزان[40] في ترجمة أبي نعيم الأصبهاني - رحمه الله -: نقلاً عن الخطيب: وكلام ابن مندة في أبي نعيم فظيع ما أحب حكايته، ولا أقبل قول كل منهما في الآخر؛ بل هما عندي مقبولان... ثم قال الحافظ: قلت: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الإعصار سلم أهله من ذلك؛ سوى النبيين والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم.اهـ.
خامساً: الوقوف على أقوال الأئمة في المترجَم جرحاً أو تعديلاً:
فيعنى أهل الحديث بها؛ لأنها هي الأساس الذي قصدوه من وراء التأليف في هذا الباب، وهي كشف الحال للراوي وبيان المنزلة والرتبة لروايته، فيستفاد منها فوائد مهمة منها:
تبيين حال الراوي ودرجته من حيث قبول روايته، أو ردِّها، وهو ثمرة علم المصطلح الذي قام من أجل ذلك، ولهذا نرى أن كلام ابن سيرين - رحمه الله - المتقدم، يركز على أن الأخذ عن الراوي لا يتم، إلا إذا كان من أهل السنة، أي من أهل الصدق والعدالة والإتقان.
ولهذا ذكر أبو نعيم[41] ما ينبغي للباحث فعله فقال: أن يبذل مجهوده في معرفة ذلك، واقتباس سنته وشريعته من الطرق المرضية، والأئمة المهدية، وكان الوصول إلى ذلك متعذر، إلا بمعرفة الرواة، والفحص عن أحوالهم وأديانهم، والكشف والبحث عن صدقهم وكذبهم وإتقانهم وضبطهم، وضعفهم ووهائهم وخطئهم، وذلك أن الله عز وجل جعل أهل العلم درجات، ورفع بعضهم على بعض، ولم يرفع بعضهم إلا وخص من رفعه من دونه بمنزلة سنية ومرتبة بهية، فالمراتب والمنازل منه مواهب اختصهم بها.ا.هـ.
قال الحافظ في مقدمة التهذيب[42] مبيناً خللاً يراه في منهج بعض من سبقه، وأنه اعتراه نقص هو: إهمال كثير من التوثيق والتجريح، قال: الذين عليهما مدار التضعيف والتصحيح.ا.هـ.
فالمقصد علم الجرح والتعديل هو ثمرة علوم الحديث، ولا يمكن الوقوف عليها إلا بمعرفة حال حملة الرواية في كل مراحل الإسناد.
سادساً: معرفة سنة الوفاة ومكانها:
وأهمية هذا تظهر في تحديد عصره الذي عاش فيه، والمكان الذي استقر به آخر أيام حياته، فيعرف من ذلك من أخذ عنه من طلاب الحديث بسند متصل، وأيضاً من أمكنه اللقاء به منهم في تلك الفترة التي عاشها.
سابعاً: معرفة من روى له من أصحاب الكتب المعتبرة:
فيستفاد من هذا العنصر بيان حال الراوي من حيث قبول نقله أو رده، فلا شك أن من روى له أصحاب الصحيح مثلاً غير من تركوا الرواية عنه، لأن روايتهم لبعض الرواة تعتبر مصدر توثيق لهم، ودليل قبول لخبرهم، ولهذا نجد من كلام الأئمة في حكمهم على الروايات؛ قولهم: رجاله رجال الصحيح، ويقولون: روى له البخاري، وروى له مسلم، فيأتي ذلك في مقام الرفع من شأنه والتوثيق له.
الخاتـمة
قد تناولت في هذا البحث مسألة من المسائل المهمة في علم الرجال عند أهل الحديث، يستفيد منها الباحث فوائد تعينه في اقتباس اللفتات التي يقتنصها الأئمة من نظرهم في الرواة، ويتحصل للناظر في التراجم من خلالها من مفاتيح المعرفة لكيفية التعامل مع تراجم الأعلام من الرواة ما يعينه على دراية أبواب هذا العلم، وإدراك بعض أسراره، ويتحقق من خلالها لمن ليس له عناية بعلم الحديث ولا ممارسة لكتب المحدثين، كيف أن الأمة عنيت بهذا المصدر العظيم؛ سنة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وكيف يستطيع رد شبه الضلال والمتهوكين، وأهل الأهواء والمنافقين، وكيف يستطيع إدراك هذا العلم وجهود علماء الأمة في العناية به، فيشكر لهم صنيعهم، ويدعو لهم بالمثوبة والأجر، ويدرك عظم التبعة والمسؤولية الملقاة على عاتق أفراد الأمة لحماية هذا الدين وحياطة مصادره وحفظ منابعه، وأيضاً يشكر الله تعالى أن أنعم عليه بنعمة الهداية لدين الإسلام، ولهذا فإن من أهم النتائج التي توصلت لها من خلال هذا البحث ما يلي:
(أ) الترابط بين علوم الإسلام، وأن كل علم منها خادم للآخر، ومساهم في إيضاحه، وأن عناية الأمة بها كانت موزعة بين أصنافها، حتى كان العلماء يعتنون بأن يكون لدى الواحد منهم دراية بجل العلوم، فتجد أنهم في بدايات حياتهم العلمية يحرصون على دراسة عدد منها بدأً من القرآن العظيم وحفظه، ودراية شيءٍ من تفسيره، ومروراً بالسنة والعناية بها وبأصولها، وأخذاً بجوانب من العلوم الأخرى كالقراءات والنحو والتاريخ والسير والأدب وغيرها.
ولهذا فإن هذا الترابط هو الذي جعل علم التراجم، وهو جزءٌ من التاريخ خادم لعلم السنة ومعرفة الحديث النبوي، ولا يستغني عنه عالم بالشريعة كالفقه والتفسير وغيرها.
(ب) إدراك أهمية عناصر الترجمة، وبيان قيمتها، وخاصة عند أهل الحديث، ودور تلك العناصر في الحكم على الخبر بالقبول أو الرد.
(ت) الدقة التي اهتم بها علماء الأمة في دراساتهم وتحقيقاتهم، وكيف أنهم بهروا العدو قبل الصديق في ذلك، وكيف أن مقاييس علماء الحديث في نقد الرواة والنظر في حال الأخبار، كان دقيقاً بشكل عجزت عن مجاراته كل الملل والنحل الأخرى، وكان مصدر إعجاب وإبهار لكل من كانت له عناية بتوثيق الأخبار وتحقيق النقول، في القديم وفي الحديث.
(ث) تعتبر هذه الدراسة محاولة لرسم منهج عملي لمن أراد الجمع للأقوال في الرواة، فيرشده البحث لضرورة وقمة العناية بهذه العناصر فيما سيقدم إليه من عمل.
(ج) مع أن هذه العناصر لم ترد مستوفاة في كل التراجم بسبب نقص المعلومة عنها، إلا أنها تعتبر رئيسة ومهمة في تجلية الصورة وإيضاح الحال، وتلقي بالتبعة على الباحث من أجل البحث والتحقيق للوقوف على ما يمكنه من العناصر المؤثرة في حكمه على الراوي أو على الخبر.
(ح) لا شك أن الأئمة لم يلتزموا إيراد كل هذه العناصر في مؤلفاتهم، ولكنها وجدت مستوفاة في مصنفات بعضهم، ولحظنا من خلال ما تقدم أهمية كل عنصر منها عند الأئمة، مما يستدعي ضرورة أبراز هذه العناصر والتأكيد على ضرورة الاهتمام بها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
المصادر والمراجع
• القرآن العظيم.
1. ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن، علوم الحديث، تحقيق: نور الدين عتر، المكتبة العلمية، 1401هـ-1981م.
2. ابن القيسراني، محمد بن طاهر، تذكرة الحفاظ، دار الصميعي، الرياض، 1415هـ، الطبعة: الأولى، تحقيق: حمدي عبدالمجيد إسماعيل السلفي.
3. الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبدالله، الضعفاء، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1405هـ – 1984م، الطبعة: الأولى، تحقيق: فاروق حمادة.
4. الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبدالله، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ، الطبعة: الرابعة.
5. الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، لعلي بن هبة الله بن أبي نصر؛ ابن ماكولا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ، الطبعة: الأولى.
6. البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، عناية أبي صهيب الكر