الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن عمل بهديه إلى يوم الدين أما بعد..
فقد قامت وزارة التربية أخيراً بإلغاء تدريس الشخصيات المثالية لعصر النبوة من كتاب التربية الإسلامية للصف الأول الثانوي، حيث استبعدت شخصية «أم المؤمنين عائشة» رضي الله عنها، وقررت بدلاً منها شخصية «السيد البدوي» وغيره، وذلك في طبعة عام 89/1990 وما بعدها، مراجعة د. عبدالمنعم النمر
وقد جاءت المعلومات عن «السيد البدوي» هلامية، وخالية من أي هدف تربوي، اللهم إلا الحث على زيارة القبور والأضرحة في «العراق»، وغير ذلك مما يخالف الدين. كما لم تذكر جوانب شخصية «البدوي» الأخرى، وأفكاره التي تزلزل العقيدة، وعلاقته بابن عربي الشيعي الباطني، ومدرسة الحلاج وغيرهم ممن خرجوا على مبادئ الإسلام الصحيح
وهذه الدراسة ليست إلا محاولة لإظهار حقيقة السيد البدوي التي أخفاها الكتاب المدرسي، ليكون الآباء والأبناء على دراية بنوع التطوير الذي أدخل على المناهج الدراسية، وليعرفوا كيف تبعد الأمة عن أصالتها ومنابع دينها الحق بشكل حثيث لا يكاد يحس، وفي مسائل دقيقة لا تكاد تلحظ.
نسأل الله تعالى أن يقي أمتنا الانحراف عن صراطه المستقيم.. آمين.
الفصل الأول
ميلاد السيد البدوي ونشأة دعوته
1- حقيقة السيد البدوي:
هو أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد البدوي، شيعي باطني[1] ولد بمدينة «فاس» بالمغرب عام (596هـ - 1200م)، وتوفي عام (675هـ - 1276).
يقول الشيخ «مصطفى عبدالرزاق» شيخ الأزهر وأستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، إنه رجع إلى مخطوطة مغربية ينكر صاحبها أن «أحمد البدوي» كان صوفياً، ويثبت أنه كان علوياً شيعياً يهدف إلى إرجاع الملك العبيدي (الفاطمي) الشيعي المغالي، وأن «علي البدوي» والد «أحمد البدوي» كان أحد العلويين - الشيعة الإسماعيلية - وأنه نـزح من المغرب إلى مكة،
وكان «أحمد البدوي» وقتها لم يتجاوز السبع سنوات وكان ذلك عام (603هـ) حيث
عقد الشيعة مؤتمراً في «مكة» بحثوا فيه كيف يعملون على إعادة الدولة
الإسلامية علوية[2] - أي شيعية باطنية - وكانت بلاد المغرب وقتها مسرحاً للنشاط الشيعي الباطني، المتستر بالتصوف، والذي يحاول إعادة الدولة العبيدية (الفاطمية)، التي كانت تقوم على أساس المذهب الإسماعيلي الباطني المغالي.
ولأن البربر أهل حرب بطبيعتهم، فقد كان من السهل أن يقيموا دولة على أساس شيعي، كالدولة الفاطمية، ومن السهل أيضاً أن يسقطوا مثل هذه الدولة، ويحاربوها، وقد بدأ المغاربة في اضطهاد الشيعة بعد إسقاطهم للدولة الفاطمية، فاضطر هؤلاء الشيعة إلى النـزوح إلى «مكة»، حيث الأمن والأمان. وفي هجرة جماعية خرج الشيعة من أنحاء المغرب متجهين إلى «مكة» متسترين بالحج، وذلك ليبحثوا عن خطة جديدة لتحقيق أهدافهم التخريبية في العالم الإسلامي. وكانت دعوتهم الجديدة تتستر بستار التصوف والزهد، ولكنه كان تصوفاً شيعياً مغالياً، كتصوف البدوي والرفاعي والشاذلي وغيرهم من دعاة التصوف الشيعي المغالي، كما كان بعضهم يتستر بستار الفلسفة كابن عربي ومن قبله الحلاج وغيرهما من القائلين بوحدة الوجود وألوان أخرى من الانحرافات العقيدية.
وقد ساعد على نشر دعوتهم الباطنية الضالة انشغال الخلافة العباسية بالحروب الصليبية.
ويضيف الدكتور «سعيد عاشور» إلى ذلك قوله:(إن
ثمة رأي تواتر في المراجع يقول إن أجداد السيد البدوي من العلويين الذين
هاجروا من الحجاز إلى فاس بالمغرب أيام الحجاج بن يوسف هرباً من قسوته
عليهم، وأخذ بهذه الرواية الشعراني وعلي باشا مبارك، في حين أن مدينة فاس لم تبن إلا في أواخر القرن الثاني الهجري، أي بعد موت الحجاج بأكثر من مائة عام. كما أن كثيراً من أئمة الشيعة عاشوا وماتوا بالمدينة المنورة، وليس بعيداً عنها مثل: علي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وغيرهم، فكيف يتفق هذا مع القول بأن اضطهاد الحجاج كان الدافع إلى هجرة العلويين؟) ويرى أن الرواية التي اعتمدوا عليها هي رواية ابن أزيك الصوفي، وهو من أوائل الذين رووا نسب البدوي، وحدد دخول أجداده فاس سنة 73هـ، وادعى بأن أهل فاس قد أحبوهم، واعتقدوا فيهم، وكذلك السلطان،
ويتساءل الدكتور سعيد عاشور عن اسم هذا السلطان الذي كان في المغرب في هذا
الوقت المبكر في حين أن لقب سلطان لم يستخدم إلا في القرن السابع الهجري[3].
ويرى أيضاً أن الدافع الحقيقي لرحيل أسرة السيد البدوي من المغرب، ليس كما جاء في الرواية المتواترة التي تقول:(إن علياً أبو السيد البدوي رأى هاتفاً في المنام يأمره بالرحيل إلى مكة، فأعلن بأنه ذاهب لأداء فريضة الحج). ويقول د. سعيد:(لو أن هذه الرواية كانت صحيحة لسألنا عن سبب اصطحابه لزوجته وأولاده جميعاً؟ وسبب عدم عودته بعد أداء فريضة الحج)[4] ويضيف قائلاً:(الحقيقة أنه قد ساد القرن السادس الهجري جو من الاضطهاد للشيعة بالمغرب، مما جعلهم يتسللون إلى المشرق، وما زال والد أحمد البدوي يتحين الفرصة للخلاص، حتى أتيحت له سنة (603هـ)، فتظاهر بالخروج للحج وفي نيته عدم العودة)[5]، وكانت أول نواة للشيعة في ثوبها الجديد بالعراق في أم عبيدة، حيث أسس أحمد الرفاعي مدرسة من أولئك الذين نـزحوا من المغرب في وقت سابق على هجرة والد السيد البدوي، وقد ارتدوا رداء التصوف والزهد ليخفوا أفكارهم وعقيدتهم الباطنية المنحرفة ومخططاتهم ضد دولة الخلافة.
ومن العراق انطلق أحد أتباع الرفاعي إلى مصر وهو أبو الفتح الواسطي جد إبراهيم الدسوقي لنشر دعوتهم الباطنية بها، وقد كان ذلك في العهد الأيوبي. وبعد موت الواسطي جاء البدوي ليخلفه في دعوته تلك التي تسترت بستار الزهد والتصوف.
وقد حاولوا الاستفادة من الإعجاب الذي يكنه الناس عادة للزهاد في كسب
الأنصار والأتباع للاستفادة بهم في محاولاتهم إسقاط الخلافة العباسية، وذلك في القرنين السادس والسابع الهجريين.
وقد توزع هؤلاء الدعاة في مصر، فكان الدسوقي بدسوق، وأبو الحسن الشاذلي بالإسكندرية، وأبو الفتح الواسطي ما بين القاهرة وطنطا والإسكندرية ولما مات الواسطي حل محله البدوي بطنطا.
رفضه الزواج:
ظل البدوي عزباً بدون زواج طوال حياته، فبعد أن توفي والده سنة (627هـ) عرض عليه أخوه الأكبر حسن أن يزوجه فرفض قائلاً:(يا أخي، تأمرني بالزواج وأنا موعود من ربي أن لا أتزوج إلا من الحور العين الحسان). ولعل عدم زواج البدوي يكون مسايراً لأستاذه أحمد الرفاعي. وقد وصفت دائرة المعارف الإسلامية تصوف البدوي بأنه يشبه تصوف فرقة اليوجا الهندية[6].
وفي مخطوطة برلين رقم 10104 ورقة 319 ما معناه أنه قد كتب للبدوي ألا يتزوج إلا من الحور العين[7].
2- ثقافة البدوي وتراثه العلمي:
ذكر عن أحمد البدوي أنه حفظ في صغره
شيئاً من القرآن الكريم وقرأ شيئاً من الفقه على المذهب الشافعي واشتهر
بالعطاب لكثرة ما كان يقع لمن يؤذيهم من الناس وقد افتخر شقيقه الأكبر (الحسن) بأنه سماه (العطاب مجرش الحرب)[8].
وقد زعم البعض أن للبدوي مؤلفات علمية، وبالغوا في ذلك، وقالوا: إنها تشكل تراثاً فكرياً ضخماً. ولما لم يجدوا أثراً لهذا التراث، قالوا إنه فقد، وأن ما بقي منه نقل إلى مكتبات أوربا وغيرها)[9].
وهذا جميعه غير صحيح، فالبدوي رغم شهرته إلا أن ثقافته كانت ضحلة، حتى بين
دعاة الشيعة الباطنية من رفاقه ومعاصريه كابن عربي، صاحب كتاب الفتوحات
المكية.
والحقيقة أن البدوي لم يترك لنا أي أثر
علمي، اللهم إلا بعض الوصايا والعظات، التي قيل إنه كان يوجهها إلى خليفته
عبدالعال، مثل:(يا عبدالعال إياك وحب الدنيا فإنما يفسد العمل الصالح كما
يفسد الخل العسل) و(يا عبدالعال أشفق على اليتيم واكس العريان، وأطعم
الجيعان، وأكرم الغريب والضيفان) كما نسب إلى البدوي بعض الأقوال
مثل:(سواقي تدور على البحر المحيط، لو نفذ ماء سواقي الدنيا كلها، ما نفذ ماء سواقي).
كما نسب إلى البدوي بعض الأشعار التي يدعي فيها لنفسه بعض صفات الألوهية، والتي خلط فيها التشيع بالتصوف، وملأها بالرموز والتأويلات الفاسدة حول فكرة الحلول والاتحاد وتقديس من يسمون بالأئمة والأولياء والأقطاب والأوتاد، والنقباء، وغير ذلك من المصطلحات الشيعية الدخيلة التي تشوه عقائد الإسلام الصافية والتي فصلنا بعضها في الفصل الثالث، وفي ذلك يقول ابن خلدون: (إن الصوفية نقلوا نظامهم عن التشيع وإن كلاً من الشيعة والصوفية يؤمنون بالأسرار ولهم مصطلحاتهم الخاصة).
ويقول «محمد فهمي عبداللطيف» في كتابه «السيد البدوي ودولة الدراويش»:(كان
التصوف قد وضح في الحياة الإسلامية كظاهرة اجتماعية وأصبح المتصوفة قوة في
المجتمع الإسلامي لها تأثيرها في اجتذاب النفوس والتأثير فيها، فاستغل العلويون - أي الشيعة الباطنية - هذه الناحية، لمواجهة الخلافة العباسية، وذلك في دهاء وبراعة. وسرعان ما أصبحت تعاليم الصوفية قائمة على تعاليم الشيعة، وبدأ عندهم الكلام في الكشف، والقول بألوهية الأئمة وحلول الإلهية فيهم، والقول بالقطب، وأشربوا أقوال الشيعة. وهكذا اصطبغ التصوف بمقاصد الشيعة وتعاليمهم، وصار المتصوفة أداة لبث الدعوة للعلويين تحت هذا الستار - ثم يصف تصوف البدوي فيقول:(إن البدوي كما يبدو لم يكن بالشخصية الصوفية التي تعالج التصوف بالرأي والتفكير، ولكن كان من طبقة الدراويش الدنيا الذين هم أشبه بطائفة اليوجا في الهند).
3- رحلاتـه:
أ- رحلة البدوي إلى العراق:
في سنة (634هـ - 1236م) سافر «البدوي»
بصحبة أخيه الأكبر «حسن» إلى العراق الذي كان مركزاً من مراكز التصوف
الشيعي الذي أسس بزعامة «أحمد الرفاعي» المتوفى (سنة 570هـ - 1174م).
التعليل لرحلته بما يشبه الوحي:
علل البدوي لرحلته من مكة إلى العراق قبيل مجيئه إلى طنطا فقال: "بينما أنا نائم بجوار الكعبة إذ أنا بهاتف يقول لي في المنام: استيقظ من نومك يا همام ووحد الملك العلام. ولا تنم فمن طلب المعالي لا ينام، فوحق آبائك سيكون لك حال ومقام"[10].
ويرى الدكتور "سعيد عاشور" أن في هذه الرؤيا مبالغة مقصودة من جانب كُتَّاب سيرة السيد البدوي، ليظهروا للقارئ عظم مكانته، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر بظهوره، ليعدوا عقلية القارئ، لتقبل المعجزات التي نسبوها إليه فيما بعد"[11].
وتمشياً مع هذه الحقيقة،
حرص هؤلاء الكُتَّاب على أن يجعلوا كل تصرف من تصرفات أحمد البدوي إنما هو
تنفيذ للمشيئة الإلهية واستجابة لأوامر يتلقاها من الله مباشرة عن طريق
هاتف، وقيل أيضاً: أنه رأى في المنام أحمد الرفاعي وعبدالقادر الجيلاني يقولان له: "يا أحمد لقد جئناك بمفاتيح العراق واليمن والهند والسند والروم والمشرق والمغرب بأيدينا، فإن كنت تريد أي مفتاح منها شئت أعطيناكه" فقال: "أنا منكما، ولكني أنا ما آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح"[12].
(وقبل هذه الرحلة كان البدوي يبدو أبعد
الناس عن أن يكون صوفياً فقد تفوق على أقرانه بفروسيته إلا أنه قد اشتهر
بدهائه فرأى المخططون للدعوة الشيعية أن يذهب البدوي إلى العراق ليكتسب
مسحة التصوف التي يمكن أن يختفي تحتها ليستفاد به حين يكلف بأمر من أمور
الدعوة)[13].
زيارة البدوي لقبر الحلاج:
وفي رحلة البدوي إلى العراق هو وشقيقه
الحسن قاما بزيارة قبر الحسن بن منصور الحلاج الصوفي الشيعي الذي أعدم عام
319هـ بسبب عقائده الخارجة عن الدين[14].
كقوله: بوحدة الوجود أي الوحدة بين الخالق والمخلوق وغير ذلك.
الادعاء بأن البدوي أمات وأحيا أثناء هذه الرحلة:
بعد زيارة قبر الحلاج اتجه البدوي وأخوه
إلى الكاظمية لزيارة قبر أئمة الشيعة ثم اتجها إلى شمال العراق لزيارة
ضريح (عدي بن مسافر الهكاري) (المتوفى سنة 558هـ-1162م)، وصاحب الطريقة العدوية، وقد غالى أتباعه في اعتقادهم فيه، (وأحرق هذا الضريح سنة 817هـ). فاجتمع العدوية عليه واتخذوه قبلة لهم، وبعدها تجولا في منطقة الهكارية شمال الموصل ولم يحسن الأكراد أهل المنطقة معاملتها[15]. ويقول كتاب سيرة البدوي (إن الحسن أومأ إليهم بيده وقال لهم: "موتوا بإذن الله تعالى، فوقعوا جميعاً على الأرض موتى. ولكن السيد أحمد حرص على التحلي بخلق العفو عند المقدرة فالتفت إلى الأكراد الموتى وقال لهم: "قوموا بإذن من يحيي الموتى ويميت الأحياء" فدبت فيهم الحياة، ونهضوا جميعاً يقبلون أقدام البدوي وأخيه)!!
وبعد ذلك اتجه الأخوان إلى جنوب العراق إلى أم عبيدة، حيث ضريح أحمد الرفاعي (مركز الطريقة الرفاعية) ودخل الأخوان ضريح الرفاعي، حيث قضيا فيه ثلاثة أيام، عادا بعدها إلى بغداد.. وفي بغداد ودع الحسن أخاه ليعود إلى الحجاز.
قصته مع فاطمة بنت بري ودورها في خداع البسطاء:
زعم البدوي أنه رأى في المنام أحمد الرفاعي وهو يطلب منه أن يذهب لتأديب فاطمة بنت بري وكانت هذه المرأة ذات مال وجمال، وذات قدرة على استمالة الرجال حتى الأولياء والمتصوفة.
ولما التقى البدوي ببنت بري، وجدها في صورة كلها فتنة وإغراء. ولما نادته محاولة استمالته (وسلب حاله)، قام البدوي بتمثيل دور الأخرس، ثم اشتغل عندها برعي الإبل. ورأت فاطمة الإبل وهي تظهر حنينها للبدوي، وتقبل قدميه، وتسكب الدموع لديه، وكان عدد هذه الإبل سبعة آلاف جمل، وفجأة قال "البدوي" للجمال موتي بإذن الله فماتت جميعاً. فقامت "فاطمة بنت بري" تستغيث بقومها، فصاح البدوي مستغيثاً ونادى قائلاً: (يا آل محمد، يا آل علي، يا آل الحسن، يا آل الحسين، يا آل علي زين العابدين، يا آل محمد الباقر، يا آل جعفر الصادق) وهكذا إلى آخر أئمة الشيعة المعروفين (وما هي إلا لحظات حتى أقبل فرسان نجد والعراق كالبحر المتلاطم، وعندئذ فر فرسان "آل بري" وصاحوا معتذرين (يا سادتنا عفوكم يسعنا، وحلمكم يحملنا)، وأقبلت فاطمة بنت بري على السيد البدوي تقبل قدميه، وتأخذ العهد عليه، وتخبره بأنها محبته، وفقيرته، ومريدته، وعرضت عليه أن تتزوجه في الحلال فاعتذر واتجه إلى مكة في خطوة واحدة[16]!!
ويرى الدكتور سعيد عاشور أن مؤلفي هذه القصة الخيالية عن البدوي أرادوا أن يمهدوا بها للدور الكبير الذي أعدوه له في طنطا، فأحاطوه بهالة من المجد الموهوم، وأظهروه في صورة المصلح القادر الجبار الذي يستطيع أن يجند الجيوش في برهة، والذي يسانده آل البيت وأئمة الشيعة، وأنه يحيي الموتى، ويميت الأحياء[17]، وغير ذلك من وسائل الإرهاب الفكري، والإيحاء النفسي، التي تستخدم في غسل مخ البسطاء والسذج من الناس.
ويرى بعض الباحثين أن رحلة البدوي إلى العراق كانت بأمر العلويين الشيعة، ليتم إعداده دعوياً على يد الصوفي الشيعي ابن عرب واسمه في طبقات الرفاعية: الشيخ بري، وهو تلميذ الرفاعي، وشقيق أبي الفتح الواسطي، حيث عرف البدوي منه كيف يبدوا مجذوباً زاهداً[18].
وكانت العراق وقتها مدرسة لتخريج الشيعة المتسترين بستار الصوفية.
ب- عودة البدوي إلى مكة:
عاد البدوي من العراق إلى مكة سنة 635هـ-1238م، وهو شخص آخر مختلف عما كان عليه من قبل حيث عرف كيف يبدو مجذوباً زاهداً. وفي هذا يقول الشعراني:
لما حدث له حادث الوله (الجذب)، تغيرت سائر أحواله، واعتزل الناس، وكان لا يتكلم إلا بالإشارة لمن يحبه، فأمسكنا معه الأدب[19]. وتصفه أخته فاطمة لأخيها الحسن قائلة: (إن أخي أحمد قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء، وانقلب سواد عينيه بحمرة، تتوقد كالجمر، وله مدة أربعين يوماً ما أكل طعاماً ولا شراباً)[20].
وبهذه الصورة الجديدة التي عاد بها البدوي من العراق إلى مكة، توجه إلى مصر واتخذ مظهر المجذوب ستاراً لدعوته.
ج- رحلته إلى طنطا:
الشيعة الباطنية تخطط لنزول البدوي إلى طنطا:
بعد أن رجع البدوي إلى مكة من العراق بحالته الجديدة (الجذب) سرعان ما زعم أن الهاتف عاوده في المنام ثلاث مرات قائلاً: "قم يا همام إلى طندتا "طنطا"، ولا تشك في المنام، فإنك تقيم بها وتربي رجالاً وأبطالاً"[21].
ويرى بعض الباحثين أن العلويين (الشيعة) هم الذين أرسلوا أحمد البدوي، لنشر دعوتهم بمصر، لإرجاع الملك الفاطمي الشيعي، وبخاصة بعد إعدام الشاعر الفقيه عمارة اليمني، وأتباعه سنة (569-1173م)، بعد اكتشاف مؤامرتهم ضد صلاح الدين الأيوبي، لإعادة حكم الفاطميين، وبعد موت داعيتهم أبو الفتح الواسطي بالإسكندرية سنة (635هـ-1237م).
وفي هذا يقول الشيخ مصطفى عبدالرزاق شيخ الأزهر: إن العلويين لم يجدوا أكفأ من السيد البدوي لهذه المهمة كمبعوث سري للصوفية المتشيعين، فوجهوه إلى الديار المصرية، وقبل وصول البدوي إلى مصر أي في سنة (637هـ = 1239م)، نزلها قبله بعام عز الدين الصياد المتوفى سنة (670هـ-1271م)، وهو شيعي متصوف – وزعيم - مدرسة أحمد الرفاعي، لاختيار المكان الذي سيمارس فيه البدوي دعوته، وهذا يفسر اتجاه البدوي من مكة إلى طنطا مباشرة[22].
ويقول عبدالصمد "زين الدين الأحمدي"، صاحب كتاب الجواهر السنية في الكرامات الأحمدية:"كان بطندتا رجل من أولياء الله يسمى الشيخ سالم المغربي، وهو الذي بشر الشيخ ركن الدين "ركين" بقدوم أحمد البدوي وعرفه أنه سينزل بمنزله. وبعد مدة قدم أحمد البدوي ضارباً اللثامين، وكان من عادة الشيخ ركين أن يصنع طعاماً في بيته كل أسبوع، ويجتمع فيه أقاربه من النساء والرجال فيطعمهم ويكرمهم، فبينما هم مجتمعون في مثل ذلك اليوم إذ دخل عليهم أحمد البدوي، فلما تأملوه، إذا هو رجل أشعث أغبر ضارب اللثامين، فصاحت النساء في وجهه، فلما علت أصواتهن، دخل عليهن الشيخ ركين، فإذا هو رجل مجذوب وإمارة الولاية لائحة فاقعة على وجهه، ووقع في قلبه أنه البدوي الذي بشره به الشيخ سالم، فأقبل عليه بكليته، وقبل يديه ورجليه، وجثا على ركبتيه، وأكرمه غاية الإكرام، ووصى أهل بيته بخدمته"[23].
ادعائه الجذب والجنون:
وفي طنطا سكن البدوي سطح دار ركين الدين، وكانت قريبة من مسجد البوصة الذي يعرف الآن بمسجد البهي وحرص على الصراخ من فوق السطح ليعلم الجميع بجذبته، يقول عبدالصمد زين الدين الأحمدي: "وأقام على سطح الدار لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، وإذا عرض له الحال يصيح صياحاً متصلاً، وتزيا أحمد البدوي بزي المجاذيب وظل ضارباً اللثامين على وجهه، وكان إذا لبس ثوباً أو عمامة لا يخلعها لغسل حتى تذوب، فيبدلونها له بغيرها".
تبوله على حصر المسجد وكشف عورته أمام المصلين!!
يروي الحافظ السخاوي في كتابه الضوء اللامع:
إن "ابن حيان" زار "البدوي" مع الأمير "ناصر الدين بن جنكلي" يوم الجمعة، وكان الناس يأتونه أفواجاً فمنهم من يقول: يا سيدي خاطرك مع بقري، ومنهم من يقول: زرعي، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة، فنزلنا معه إلى الجامع بطندتا، وجلسنا في انتظار الصلاة، فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة، وضع الشيخ أحمد رأسه في طوقه بعدما قام قائماً وكشف عن عورته بحضرة الناس وبال على ثيابه وعلى حصير المسجد، واستمر ورأسه في طوق ثيابه، وهو جالس حتى انقضت الصلاة ولم يصل".
وتصف دائرة المعارف الإسلامية ما كان يحدث من "البدوي" وهو فوق سطح بيت ركين، كان يرفع عينيه صوب الشمس حتى تحمرا أو تمرضا وتصبحا أشبه شيء بالجمرتين، وكان تارة يطول صمته، وتارة يتصل صراخه، وكان يمتنع عن الزاد والشراب ما يقرب من الأربعين يوماً[24].
وهكذا جاء "البدوي" إلى "طنطا" وهو محاط بالسرية، ويرتدي اللثامين، ولا يتحدث إلا بالإشارة، ولا يظهر إلا الوله، والانجذاب، غير مفصح عن شيء من دعوته.
وقد ادعوا أنه كان يضع اللثامين على وجهه ليستر بهما الأنوار الربانية، والتجليات الإلهية التي كانت تنطبع على محياه بسبب كثرة تطلعه إلى السماء، وبسب وصله صيام النهار بقيام الليل.
[1]
الشيعة الباطنية هي – فرقة منحرفة عقيدياً، تتظاهر بالإسلام لتكيد له من
داخله، وتغالي في تعاليم الدين كقولهم بألوهية علي بن أبي طالب – رضي الله
عنه – وذريته من ولد فاطمة – رضي الله عنها - ويتخفون تحت شعار حب آل
البيت ولهم انحرافات أخرى كثيرة. وقد بدأ ظهور الفكر الباطني في خلافة
عثمان بن عفان – رضي الله عنه – عندما تظاهر عبدالله بن سبأ بالإسلام وهو
يهودي صنعاني، كان يلقب بابن السوداء وادعى حب آل البيت، وشايع علي بن أبي
طالب - رضي الله عنه - ووصفه بالألوهية، وأول دولة قامت على أساس المذهب
الشيعي الباطني هي الدولة الفاطمية حيث خرجت على الخلافة العباسية وحكمت
شمال أفريقيا ومصر عدة قرون ثم جاء صلاح الدين الأيوبي فقضى على دولتهم.
ومن بعده أصبحت الدعوات الباطنية تتخفى تحت ستار التصوف وحب آل البيت، ولم
تقم للدعوات الباطنية قائمة من بعد الدولة الفاطمية ودعوة البدوي إلا
الدولة الصفوية بإيران حيث أعلن قيام دولة على أساس المذهب الشيعي
الباطني..
[2] مجلة السياسة الأسبوعية، عدد 89 لسنة 1927. مقال تحت عنوان (المولدان الأحمدي والدسوقي).
[3] كتاب السيد أحمد البدوي، د. سعيد عاشور، ص41، وما بعدها، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
[4] المرجع السابق، ص45.
[5] الجواهر السنية لعبدالصمد ص7، الطبقات الكبرى للشعراني، ج3/ 159، د. سعيد عاشور، ص47.
[6] دائرة المعارف الإسلامية ج1، ص465.
[7] المرجع السابق ج2، ص305.
[8] الجواهر السنية لعبد الصمد، ص7.
[9] السيد أحمد البدوي، د. سعيد عاشور ص120.
[10] السيد أحمد البدوي، د. سعيد عاشور، ص57.
[11] نفس المرجع، ص57 وما بعدها.
[12] المرجع السابق، ص57 وما بعدها.
[13] طبقات الرفاعية، ص47.
[14] السيد البدوي، د. سعيد عاشور، ص60.
[15] معروف تاريخياً عداء صلاح الدين الأيوبي للشيعة الباطنية فهو الذي قضى على الدولة الفاطمية، كما أن صلاح الدين من الأكراد.
[16] كتاب السيد أحمد البدوي، د. سعيد عاشور، ص66-74 عن الخفاجي، النفحات ص 245-250، د. عبدالصمد في الجواهر، ص50، 55.
[17] نفس المرجع السابق للدكتور سعيد عاشور، ص74، 75.
[18] طبقات الرفاعية، ص26، والطبقات الكبرى للشعراني، ص109.
[19] الطبقات الكبرى للشعراني، ج1/159.
[20] المرجع السابق، ص115، عن عبدالصمد الجواهر السنية ص61.
[21] الطبقات الكبرى للشعراني، ج1/246، والجواهر السنية ص60، د. سعيد عاشور، ص81.
[22] مجلة السياسة الأسبوعية عدد89 لعام 1927، عن: المولدن الأحمدي والدسوقي.
[23] السيد أحمد البدوي، د. سعيد عاشور، ص86.
[24] دائرة المعارف الإسلامية، ج1، 466.
المصدر موقع الألوكة