لنهي عن التطوع بعد الإقامة
محمد ضياء الرحمن الأعظمي
إذا أقيمت الصلاة، كره الاشتغال بالتطوع من أي جنس كان، وروي في ذلك عدة أحاديث
منها:
1- حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: "إذا أقيمت
الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
والدارمي وأحمد وابن خزيمة والخطيب في تاريخ بغداد[1]
كل بطرق عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة. قال الترمذي: حسن.
أقول: بل هو صحيح، ولعل الترمذي لم يجزم بصحته من أجل رواية بعض الثقات عن عمرو بن
دينار موقوفاً على أبي هريرة. منهم حماد بن زيد عند مسلم مع إخراجه مرفوعاً عن أيوب
وعند الطحاوي في شرح معاني الآثار ومنهم حماد بن سلمة عنده وعند الشافعي في الأم،
ومنهم سفيان بن عيينة. ففي سنن البيهقي قال علي بن الحكم حدث بهذا عمرو مرة فرفعه
فقال له رجل: إنك لم تكن ترفعه. قال: بلى. قال: لا واللّه فسكت قيل إن المعترض على
عمرو بن دينار هو سفيان بن عيينة كما جاء التصريح به في بعض الروايات ونص على ذلك
الترمذي عقب حديث الباب. ولكن الذي عليه الحفاظ الثقات أن هذا الحديث روي مرفوعاًَ
إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم. فقد روى الإمام مسلم بثلاثة طرق وهي: ورقاء بن
عمرو، وزكريا بن إسحاق، وأيوب السختياني كلهم عن عمرو بن دينار مرفوعاً.
وقال الترمذي بعد رواية الحديث بطريق زكريا بن إسحاق. هكذا روى أيوب، وورقاء بن
عمرو، وزياد بن سعيد، وإسماعيل بن مسلم، ومحمد بن جحادة، عن عمرو ابن دينار عن عطاء
بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وروى حماد ابن زيد، وسفيان
بن عيينة، عن عمرو بن دينار ولم يرفعاه، والحديث المرفوع أصح عندنا، ثم قال: وقد
روي هذا الحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من غير هذا الوجه، عياش
بن عباس القتباني المصري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه
وسلم" انتهى.
وقال البيهقي: "وقد رفعه عن عمرو بن دينار سوى من ذكرنا زياد بن سعيد، وأبان ابن
يزيد العطار، ومحمد بن مسلم الطائفي وجماعة".
ورواية عياش بن عباس التي أشار إليها الترمذي أخرجها أحمد قال ثنا حسن، ثنا ابن
لهيعة، ثنا عياش بن عباس القتباني، عن أبي تميم الزهري، عن أبي هريرة مرفوعاً
ولفظه: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت".
ورواه أيضا الطحاوي قال ثنا فهد، قال ثنا أبو صالح، قال حدثني ليث، عن عبد اللّه
ابن عباس القتباني عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً مثل لفظ أحمد قال
الحافظ وأبو تميم الزهري مجهول قاله الحسيني وهو من طريق ابن لهيعة وقد تفرد بهذا
اللفظ، الحديث في الأصل مشهور[2]
ثم اختلف الرواة عن سفيان بن عيينة وحماد بن سلمة، فروى أكثرهم منهما مرفوعاً عند
أبي داود، والدارمي، والبيهقي في المعرفة.
وقد اجتمع النقاد على أن الرفع مقدم على الوقف. لأن في الرفع زيادة علم، وهي مقبولة
عند الجمهور إذا رواها الثقات.
ولذا انتقد الإمام النووي على من صحح الوقف بقوله "الرفع مقدم على الوقف" على
المذهب الصحيح، وإن كان عدد الرفع أقل، فكيف إذا كان أكثر، وهو رأي الترمذي
والبيهقي أيضاًَ.
وقال الإمام البغوي "المرفوع أَصح، وعليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، فمن
بعدهم إن الصلاة إذا أقيمت فهو ممنوع من ركعتي الفجر، وغيرها من السنن إلا
المكتوبة"[3].
وقال الحافظ "فيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة أم لا".
وقد بوب البخاري بحديث أبي هريرة في كتاب الأذان فقال: باب إذا أقيمت الصلاة فلا
صلاة إلا المكتوبة، وإن لم يخرجه في صحيحه لأن الحديث الذي ذكره في الباب يغني عن
حديث أبي هريرة فكأنه توقف عن إخراجه لأجل الخلاف بين رفعه ووقفه والصحيح أنه مرفوع
كما نص عليه الحفاظ.
2- حديث عبد الله بن مالك ابن بحينة رضي اللّه عنه قال: "مر النبي صلى اللّه عليه
وسلم برجل. وفي رواية: أنه رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس: وقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم "الصبح أربعاًَ، الصبح أربعاً".
رواه البخاري ومسلم والنسائي والطحاوي وأحمد[4]
واللفظ للبخاري. ولفظ مسلم، "أنه مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح فكلمه بشيء لا
ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا، نقول ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: قال لي: "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاًَ".
وقوله لاث به الناس: أي اجتمعوا حوله.
وقوله عبد اللّه بن مالك ابن بحينة: عبد الله هو صاحب القصة، وله صحبة، والرواية،
وبحينة أمه. وكلاهما أسلما. وأما مالك فلم يذكره أحد من الصحابة، وهو ابن القشب قدم
مكة في الجاهلية وحالف بني مناف وتزوج بحينة بنت الحارث بن المطلب واسمها عبدة
وبحينة لقبوها.
ويسمي شعبة في رواية البخاري، مالك ابن بحينة وتابعه على ذلك أبو عوانة، وحماد بن
سلمى، فتواتر الناس على هذا الخطأ فإن بحينة ليست والدة مالك، بل هي زوجته، والصحبة
ليست لمالك بل لابنه عبد اللّه. فينبغي أن يكتب ابن بحينة بزيادة ألف، ويعرب إعراب
عبد الله كما في محمد بن علي ابن الحنفية. وقد حكى ابن عبد البر خلافاً لبحينة هل
هي أم عبد اللّه أو أم مالك والصواب كما قلت ودليل ذلك أيضاً ما صنعه الإمام أحمد
في مسنده فإنه ذكر الحديث المتقدم بجميع طرقه في مسند عبد الله بن مالك ولا يوجد
لمالك عند أحمد مسند.
ووقع نحو هذه القصة لابن عباس أيضا. قال: أقيمت صلاة الصبح فقمت لأصلي الركعتين،
فأخذ بيدي النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال: "أتصلي الصبح أربعاًَ" رواه ابن حبان،
وابن خزيمة، والطيالسي، والحاكم والبيهقي، والطبراني في الكبير، والبزار، وأبو يعلا[5]
كلهم بطرق عن أبي عامر، عن عبد اللّه بن مليكة، عن ابن عباس. وأبو عامر صدوق كثير
الخطأ.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
3- حديث عبد اللّه بن سرجس رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد ورسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم، فلما سلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "يا فلان بأي
الصلاتين اعتددت بصلاتك وحدك، أَم بصلاتك معنا ؟".
رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي، والبيهقي[6]،
وللحديث شواهد أخرى ذكرت أكثرها في كتابي "أبو هريرة في ضوء رواياته"[7].
وهذه الأحاديث تدل على كراهية التطوع عند الإقامة. أي إذا شرع
في الإقامة، كما صرح بذلك محمد ابن جحادة، عن عمرو بن دينار فيما أخرجه ابن حبان
بلفظ "إذا أخذ المؤذن في الإقامة".
قول النبي صلى اللّه عليه وسلم "إلا المكتوبة" فيه منع من التنفل بعد الشروع في
إقامة الصلاة سواء كانت راتبة أم لا.
ويؤكد ذلك حديث أحمد "إلا المكتوبة التي أقيمت لها".
وفيه معنى أنه لا يجوز أن يقضي من الفوائت المفروضة أيضا عند الإقامة.
وقد ورد الاستثناء من ذلك بركعتي الفجر في حديث أبي هريرة عند البيهقي عن حجاج بن
نصير، عن عباد بن كثير، عن ليث، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال البيهقي عقب ذكر الحديث
"وهذه الزيادة لا أصل لها، وحجاج بن نصير وعباد بن كثير ضعيفان".
وعقب عليه العيني في العمدة[8]
وقال: "قال يعقوب بن شيبة سألت ابن معين عن حجاج بن نصير الفسطاطي البصري فقال:
صدوق وذكره ابن حبان في الثقات، وعباد ابن كثير كان من الصالحين. أقول: ذكر ابن
معين في كتابه التاريخ حجاج بن نصير الفسطاطي فقال: ليس بشيء" انتهى.
وقال عنه ابن المديني: "ذهب حديثه" وقال أبو حاتم: "منكر الحديت، ضعيف الحديث، ترك
حديثه، وكان الناس لا يحدثون عنه" وقال البخاري: "سكتوا عنه"
وأما عباد بن كثير فقد قال عنه أحمد: "روى أحاديث كاذبة لم يسمعها، وكان من أهل مكة
وكان صالحاًَ. قيل كيف كان يروي ما لم يسمع قال: البلاء الغفلة".
وقال عنه ابن معين: "ضعيف الحديث".
وقال البخاري: "سكن مكة، تركوه".
وقال النسائي: "متروك"
مع وجود هذا الكلام من العلماء فيه حاول الشيخ العيني توثيق الرجلين واعتمد على
توثيقه علماء الحنفية مثل صاحب لامع الدراري[16] ثم يعارض هذه الزيادة ما ورد في
بعض طرق حديث أبي هريرة عن مسلم بن خالد، عن عمرو بن دينار "قيل يا رسول اللّه ولا
ركعتي الفجر". قال: "ولا ركعتي الفجر" أخرجه ابن عدي في ترجمة يحيى بن نصر كما ذكر
العيني والحافظ ورواه أيضاً الإمام البيهقي في السنن قال الحافظ إسناده حسن.
أقول: مسلم بن خالد تكلم الناس فيه.
وبعد هذا نرجع إلى مذاهب العلماء في الموضوع فنقول: في الموضوع عدة أقوال جعلها
الشوكاني تسعة. ولكن يمكن حصرها في أربعة.
الأول: عدم جواز الدخول في النوافل لمن سمع الإقامة سواء كان في خارج المسجد أو
داخله، وسواء في ركعتي الفجر أو غيرهما فإن من فعل فقد عصى اللّه ورسوله.
قال ابن حزم في المحلى "فمن سمع إقامة صلاة الصبح، وعلم أنه إن اشتغل بركعتي الفجر
فاته من صلاة الصبح ولو التكبير، فلا يحل له أن يشتغل بهما، فإن فعل فقد عصى الله
تعالى. وإن دخل في ركعتي الفجر فأقيمت صلاة الصبح فقد بطلت الركعتان، ولا فائدة له
في أن يسلم منهما ولو لم يبق عليه منهما إلا السلام، لكن يدخل بابتداء التكبير في
صلاة الصبح كما هو ثم قال: وقال الشافعي وأبو سليمان كما قلنا". انتهى.
قال الخطابي في معالم السنن: روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يضرب الرجل إذا رآه يصلي
الركعتين والإمام في الصلاة.
أقول رواه البيهقي بدون إسناد، وأخرجه ابن أبي شيبة مسنداً إلا أنه فيه ابن أبي
فروة وهو: إسحاق بن عبد اللّه الأسود أبو سليمان متروك قاله أبو زرعة، وأبو حاتم،
والنسائي، وا لدارقطني، وغيرهم.
ورواه عبد الرزاق في المصنف بإسناد آخر وفيه جابر بن يزيد الجعفي الكذاب.
ويبدو أن القول بالتحريم قاله أيضاًَ بعض السلف كما جزم ابن حزم. وابن عبد البر في
التمهيد.
الثاني: الكراهية. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم: ابن عمر،
وأبو هريرة، وسعيد بن حبير، وابن سيرين، وعروة بن الزبير، وإبراهيم النخعي وعطاء.
وإليه ذهب الشافعي وأحمد وابن مبارك وإسحاق وغيرهم.
ففي شرح المهذب مذهبنا أنه إذا أقيمت الصلاة كره أن يشتغل بنافلة سواء تحية المسجد،
وسنة الصبح وغيرها.
وقال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي: "ومن دخل المسجد وقد أقيمت صلاة الصبح،
فليدخل مع الناس، ولا يركع ركعتي الفجر".
وفى المغني إذا أقيمت الصلاة، فلا يشتغل بالنافلة، سواء خشي فوات الركعة الأولى أو
لم يخش.
ثم قال: "ولأن ما يفوته مع الإمام أفضل مما يأتي به فلم يشتغل به".
وفي مصنف ابن أبي عيينة وعبد الرزاق عن نافع أن ابن عمر دخل المسجد والقوم في
الصلاة، ولم يكن صلى ركعتي الفجر فدخل مع القوم في صلاتهم، ثم قعد حتى إذا أشرقت له
الشمس قضاها.
قال: وكان إذا أقيمت الصلاة وهو في الطريق صلاها وهو في الطريق.
وروى عبد الرزاق أيضاً عن نافع أن ابن عمر رأى رجلاًَ يصلي، والمؤذن يقيم. فقال:
"أَتصلي الصبح أربعاً" ؟
قال معمر: وبلغني عن سعيد بن جبير مثل ذلك.
الثالث: قال مالك: "من دخل المسجد وأقيمت الصلاة، أو وجد الإمام في الصلاة فلا يركع
ركعتي الفجر بل يدخل مع الإمام، وأما إذا كان خارج المسجد فعلم بالإقامة، أو بأن
الإمام في الصلاة فإن رجا أن لا تفوته مع الإمام الركعة الأولى فليركع ركعتي الفجر
خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام، فإن لم يرج ذلك فليدخل مع الإمام ولا يشتغل بشيء من
النوافل".
وفي المدونة قيل لمالك: إن سمع أحد الإقامة قبل أن يدخل المسجد، أو جاء والإمام في
الصلاة، ألا ترى له أن يركعهما خارجاًَ، قبل أن يدخل؟ فهو أحب إلي: ولا يركعهما في
شيء من أفنية المسجد التي تصلى فيها الجمعة اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته
الركعة مع الإمام فليدخل المسجد وليصل معه".
ويروى في هذا الموضوع حديث ضعيف عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى
اللّه عليه وسلم يقول: "لا صلاة لمن دخل المسجد والإمام قائم يصلي، فلا ينفرد وحده
بصلاة، ولكن يدخل مع الإمام في الصلاة". رواه الطبراني في الكبير.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه يحيى بن عبد اللّه البابلتي وهو ضعيف. انتهى قوله.
وبابلت: قرية بين حران والرقة.
والبابلتي هذا ضعفه أحمد، وابن أبي حاتم، وابن عدي ويحيى بن معين، وهو من رجال
النسائي.
وأخرج عبد الرزاق عن نافع أن ابن عمر سمع الإقامة فصلى في الحجرة، ركعتي الفجر ثم
خرج فصلى مع الناس.
قال: وكان ابن عمر إذا وجد الإمام يصلى ولم يكن ركعهما، دخل مع الإمام، ثم يصليهما
بعد طلوع الشمس "وفى مصنف ابن أبي شيبة أنه كان يدخل في الصلاة تارة" ويصليهما في
جانب المسجد أخرى.
وروى الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار عن يحيى بن كثير، عن زيد بن أسلم أن ابن
عمر جاء والإمام يصلي الصبح، ولم يكن صلى الركعتين قبل صلاة الصبح، فصلاهما في حجرة
حفصة ثم صلى مع الإمام.
قال الحافظ: وقد فهم ابن عمر اختصاص المنع لمن يكون في المسجد، لا خارجاً عنه فصح
عنه أنه كان يحصب من يتنفل في المسجد بعد الشروع في الإقامة.
الرابع: وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة للصبح فإن طمع
بأنه يدرك مع الإمام ولو ركعة وتفوته الأخرى فليبدأ بركعتي الفجر ثم يدخل مع
الإمام، وإن خشي أن لا يدرك مع الإمام ولا ركعة فعليه أن يدخل في الصلاة جمعاً
لكلتا المكرمتين والدليل على ذلك ما جاء من الزيادة في بعض الروايات. عن أبي هريرة
وقد مضى التحقيق فيها بأنها لا تصح.
وقولهم: إن طمع أن يدرك مع الإمام ولو ركعة فليبدأ بركعتي الفجر، مردود بحديث عبد
الله بن سرجس لأن قوله صلى اللّه عليه وسلم. "أو التي صليت معنا" يدل على أنه أدرك
الركعتين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، وفرغ من ركعتي الفجر قبل فواته حتى الركعة
الأولى.
وقد ذكر الشيخ الطحاوي والعيني بعض الآثار عن الصحابة بأنهم كانوا يصلون ركعتي
الفجر والإمام في صلاة الصبح في جانب المسجد والجواب عن ذلك: إن ثبت فعل بعض
الصحابة فالنص النبوي مقدم عليه.
ثم ذكر الشيخ الطحاوي تأويلات كثيرة في جواز إتيان ركعتي الفجر وإليكم بعض هذه
التأويلات مع مناقشتها.
الأولى: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كره لابن بحينة وصله النافلة بالفريضة في
مكان واحد، لم يفصل بينهما بشيء، وليس لأنه كره له أن يصليها في المسجد إذا كان فرغ
منها (ثم) تقدم إلى الصفوف، فصلى الفريضة مع الناس.
واستدل لذلك بحديث يحيى بن كثير عن محمد بن عبد الرحمن (ابن ثوبان). "أن رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم مر بعبد اللّه بن مالك ابن بحينة وهو منتصب (أي قائم) يصلى ثمة
بين يدي صلاة الفجر فقال: "لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها واجعلوا
بينهما فصلاً" رواه أحمد . بطريق عبد الرزاق أنا معمر، عن يحيى مثله. وإسناده جيد.
ويجاب عن هذا بأنه يلزم أن لا يكون الفصل مطلوباً في سنة الظهر مع فرضها، وهذا لا
يقول به أحد.
ثم لو كان الفصل هو المطلوب لحصل ذلك بالكلام، أو تقدم خطوة، ولا يحتاج أن يمشي من
مؤخرة المسجد إلى مقدمه.
فلابد أن نحمل حديث ابن بحينة على الفصل بالزمان. يعني لا يجوز لأحد أَن يصلي
النوافل في زمان الفريضة التي أَقيمت لها. وهذا مطلوب في جميع الصلوات.
وإنما خص بالذكر ركعتا الفجر لأن القصة وقعت فيهما.
الثانية: أن النهي يحمل على من يصلي النافلة في الموطن الذي أقيمت فيه الصلاة. وعلى
هذا يحمل حديث عبد اللّه بن سرجس فإنه صلاهما خلف الناس فكان شبيه المخالط لهم.
وهذا مكروه عندنا. وإنما يجب عليه أن يصليهما في مؤخر المسجد، ثم يمشى من ذلك
المكان إلى أول المسجد. فأما أَن يصليهما مخالطاًَ لمن يصلي الفريضة، فلا. انتهى.
ويجاب على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر على الرجل وقال له: "يا فلان،
أجعلت صلاتك التي صليت معنا، أو التي صليت وحدك".
وكان المقام يقضي أن يبين له بأنه إذا صلى بعيداً عن الناس فلا حرج في ذلك ولكنه
اكتفى بالإنكار، وإنكاره يشمل من صلى مخالطاً بالناس ومن صلى بعيداً عن الناس.
ثم لفظ الحديث يرد على هذا التأويل أَيضاًَ، لأن الرجل صلى ركعتين خلف الناس، ثم
دخل مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في صلاته، فلو كان صلى مخالطاً بالصف ما كان يقال
له: ثم دخل.
ولفظ حديث مسلم أصرح من هذا وهو "دخل رجل المسجد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فلما سلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "يا فلان بأي الصلاتين اعتددت
أبصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا"".
وهذا الحديث يبطل جميع التأويلات التي قال بها الحنفية وذكرها الإمام الطحاوي ومن
بعدهم.
الثالثة: قال الشيخ الطحاوي: وأما من طريق النظر فإن الذين ذهبوا إلى أَنه يدخل في
الفريضة ويدع الركعتين، فإنهم قالوا: تشاغله بالفريضة أولى من تشاغله بالتطوع
وأفضل..
فكان من الحجة عليهم في ذلك أنه قد أجمعوا أنه لو كان في منزله، فعلم دخول الإمام
في صلاة الفجر أنه ينبغي له أن يركع ركعتي الفجر ما لم يخف فوت صلاة الإمام.
فإن خاف فوت صلاة الإمام لم يصلهما لأنه أمر أن يجعلهما قبل الصلاة. انتهى.
ويجاب على هذا بأنه حجة على من يقول بأداء ركعتي الفجر عند الإقامة في البيت وهم
المالكية.
وأما الذين يكرهون أداءهما وقت الإقامة فلم يفرقوا بين أدائهما في المنزل، وغير
المنزل، بل كرهوا مطلقاً لأن الزمان زمان الفريضة فكيف يصرفه أحد في غير الفريضة
ومهما بلغ تأكيد ركعتي الفجر فإنهما لن يفضلا على صلاة الفرض.
ولذا نرى المتأخرين من محققي الحنفية ذهبوا إلى ظاهر أحاديث الباب، ولم يقبلوا
تأويلات الطحاوي.
قال الشيخ المحقق عبد الحي اللكنوي صاحب الرفع والتكميل في التعليق الممجد بعد ذكر
تأويلات الطحاوي "لكنه حمل من غير دليل معتد به بل سياق بعض الروايات يخالفه. إلى
أن قال: وظاهر الأخبار المرفوعة هو المنع".
وأما من شرع في النافلة فأقيمت الصلاة فمن الأفضل أن يقطع صلاته، ويدخل مع الإمام.
وقال علماء الحنفية عليه أن يتم صلاته لأن اللّه تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ}.
يقول الشيخ الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع "لأن صونه عن البطلان واجب" وخصوا
النهي الوارد في حديث أبي هريرة بابتداء النافلة عند الإقامة لا عدم الاستمرار لمن
دخل في النافلة قبل شروع الإقامة.
وذهب علماء الشافعية أيضاً إلى الاستمرار في إتمام النافلة ما لم يخش فوات الجماعة
ففي المهذب "وإن دخل في صلاة نافلة، ثم أقيمت الجماعة، فإن لم يخش فوات الجماعة،
أتم النافلة، ثم دخل في الجماعة، وإن خشي فواتها قطع النافلة لأن الجماعة أفضل".
قال النووي في شرح المهذب ومراده بقوله: "خشي فوات الجماعة، أن تفوت كلها بأن يسلم
من صلاته".
هكذا صرح به الشيخ أبو حامد والشيخ نصر وآخرون.
وأما الظاهرية فكما سبق ذكره بالغوا في ذلك فقالوا: لا فائدة من التسليم إذا أقيمت
الصلاة.
فعلى المتطوع أن يقطع نافلته، ويدخل مع الإمام في الفريضة حتى يدرك فضيلة التحريم.
وظاهر أحاديث الباب يؤيد ما قاله الظاهرية والله تعالى أعلم.
وأما استدلال الحنفية بالآية الكريمة فبعيد لأن معناها: لا تبطلوا أعمالكم بالشرك
والرياء. ثم ليس هنا إبطال بل إنما هو بناء لما هو أفضل منه وقد قال الشيخ الكاساني
في بدائع الصنائع "إذا شرع في الفرض، ثم أقيمت الصلاة، فإن كان في صلاة الفجر
يقطعها ما لم يقيد الثانية بالسجدة لأن القطع وإن كان نقصاً صورة فليس بنقص معنى.
لأنه للأداء
على وجه الأكمل، والهدم ليبنى أكمل يعد إصلاحاً لا هدماً فكذلك هنا. فمن قطع ركعتي
الفجر ليدرك فضيلة تكبيرة التحريم فإنه وإن كان قطعاً صورة فليس بنقص معنى، لأن ما
يدركه من الجماعة أعظم أجراً، وأكثر ثواباً مما يفوته بقطع النافلة".
وقد ذكر الشيخ المحدث عبيد اللّه المباركفوري صاحب المرعاة توجيهاً حسناً في
المسألة فقال: "الراجح عندي أن يقطع صلاته عند الإقامة إن بقيت عليه ركعة وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة" فلا يجوز له أن يصلي
ركعة بعد
الإقامة، وأما إذا أقيمت الصلاة وهو في السجدة أو التشهد فلا بأس لو لم يقطعها
وأتمها لأنه لا يصدق عليه أنه صلى صلاة. أي ركعة بعد الإقامة" انتهى.
وهو الذي أرجحه في هذه المسألة واللّه تعالى أعلم بالصواب.
عموم البلاء
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث
اللّه له النبيين أجمعين...
لو طوِيَ بساطه، وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك
العباد...
وفي ذلك روى أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم، فلم يفعل، إلاّ يوشك أن
يعمهم اللّه بعذاب من عنده...".
------------------------------------------
[1] مسلم: 5/229 مع شرح النووي، أبو
داود: 1/489 مع عون المعبود، الترمذي: 2/481 مع التحفة، النسائي: 1/129، ابن ماجه:
1/364، الدارمي: 1/337، أحمد في المسند 3/521،517،455،221 ابن خزيمة: 2/169،
الخطيب: 5/197، 7/195، 12/213، 13/59.
[2] انظر تعجيل المنفع: 209.
[3] شرح السنة: 3/362.
[4] البخاري: 2/148 مع الفتح، ومسلم: 5/222 مع النووي، والنسائي: 3/117، والطحاوي:
1/372، وأحمد: 5/345.
[5] ابن حبان (موارد الظمآن 123)، وابن خزيمة: 2/170، والطيالسي: 358: والحاكم:
1/307، والبيهقي: 2/982، وأما الطبراني في الكبير والبزار وأبو يعلى فكما ذكره
الهيثمي في مجمع الزوائد: 2/75.
[6] مسلم: 5/224 مع شرح النووي، وأبو داود: 1/489 مع العون، والنسائي: 2/117، وابن
مالك: 1/364: والطحاوي: 1/373، والبيهقي: 2/482.
[7]انظر: الجرح والتعديل: 1/2/167، وميزان الاعتدال: 1/465، وقال الحافظ في
التقريب: ضعيف، وكان يقبل التلقين.
[8]انظر: الجرح والتعديل: 3/84_85، وميزان الاعتدال: 2/373، وتهذيب التهذيب: 5/100.
المصدر شبكة المشكاة