سيرته الذاتية اسمه،
نسبه، شهرته: إن الاسم المشهور للشيخ في
العالم الإسلامي هو «عبد القادر الأرناؤوط» إلا أن اسمه في الهوية
الشخصية هو «قَدْري». ونسبه هو:«قَدْري بن صَوْقَل بن عَبْدُول بن
سِنَان...». وأما شهرته بالأرناؤوط فهي عبارة عن لقب أطلقه الأتراك
على كل ألباني. مولده
ونشأته: ولد شيخنا العلامة الحافظ،
المحدث الفقيه المتبصر، الحكيم الورع، و الداعية النبيل –نحسبه
كذلك و لا نزكيه على ربنا– بقرية « فريلا VRELA»
في « إقليم كوسوفا
Kosovo» من بلاد
الأرنؤوط في ما كان يعرف بيوغوسلافيا، سنة (1347هـ – 1928م). و
الأرنؤوط –كما قال الشيخ الألباني رحمه الله– جِنسٌ يندَرِجُ تحته
شعوبٌ كثيرة من الألبان و اليوغسلاف و غيرهم. و الألباني قديماً
كان يكتب على غلاف كتبه: تأليف محمد ناصر الدين الأرنؤوطي، و عليها
خطه بالإهداء إلى المكتبة الظاهرية. و قد هاجر شيخنا سنة (1353هـ _
1932م) إلى دمشق بصحبة والده –رحمه الله– و بقية عائلته –وكان عمره
آنذاك ثلاث سنوات– من جراء اضطهاد المحتلين الصرب –أذلهم الله–
للمسلمين الألبان. وكان المسلمون آنذاك أقلِّية مضطهدين من قبل
الصِّرب يمارسون عليهم الضغوط بشتى أنواعها، مما دعا السكان
المسلمين للفرار بدينهم –من وطأة هذا الحكم الشيوعي الظالم– إلى
بلاد المسلمين. وعندما كان الشيخ صغيراً حرص والده على تعليمه
اللغة الألبانية، فأتقنها مما ساعده هذا في رحلاته إلى البلدان
التي زارها ولا سيما بلده الأصلي إقليم كوسوفا في يوغسلافيا
متخطياً بذلك حاجز اللغة. فترعرع الشيخ في دمشق الشام،
وتلقى تعليمه أول الأمر في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدمشق بعد دراسة
سنتين في مدرسة «الأدب الإسلامي» بدمشق. وبقي في مدرسة «الإسعاف
الخيري» يطلب العلم حتى أنهى مرحلة الخامس الابتدائي سنة (1363هـ _
1942م ) وكان الصف الخامس آنذاك هو نهاية المرحلة الابتدائية. وبعد
ذلك ترك العلم لغرض العمل لحاجته للمال فعمل «ساعاتياً» في تصليح
الساعات في محلة «المسكية» بدمشق، وكان يعمل في النهار ويدرس
القرآن والفقه مساءاً. وكان عمله عند رجل أزهري يدعى الشيخ «سعيد
الأحمر التلي» –رحمه الله تعالى– وكان عالماً يعلمِّه علوم الدين
واللغة. وعندما لاحظ نبوغه وحفظه للقرآن والحديث النبوي الشريف،
وجَّهه وأرشده لطلب العلم حيث أخذ بيده للمسجد الأموي بدمشق،
وساعده بالمال وقال له: «يا بني، أنت لا تصلح إلا للعلم». وقام
بتسليمه للشيخ عبد الرزاق الحلبي –حفظه الله– وانضم إلى حلقة من
حلقاته العلمية، وطلب منه تعليمه علوم الشرع واللغة والأدب. أسرته
وأولاده: نشأ الشيخ في عائلة فاضلة حيث
تربى على الفضيلة والعفّة والأدب مع والدين كريمين، إلا أن والدته
–واسمها «شانه»– وافاها الأجل وهو مازال صغيراً. وقد رزقه الله أحد
عشر ولداً: من البنين ثمانية ذكور، وثلاث إناث. و هم جميعاً من
زوجته الثانية «خديجة» التي مازالت تشاركه حياته الزوجية خديجة
–حفظهما الله–، سوى الأول –و هو الابن الأكبر واسمه «محمود»– فمن
زوجته المتوفاة واسمها «صبرية» –رحمها الله–. و محمود معروف بنشره
لعدة كتب منها: شذرات الذهب الذي أشرف على تحقيقه الشيخ عبد
القادر. منزله: سكنت عائلة الشيخ في بداية
هجرتها من يوغسلافيا في منطقة «ركن الدين» بدمشق، فترة من الزمن
تقارب السنة. ثم انتقلت إلى منطقة «الديوانية البرّانية» مع عائلات
أخرى يوغسلافية من إقليم كوسوفا، فسميت تلك المنطقة فيما بعد بحارة
«الأرناؤوط». وهو الآن يسكن مع أسرته في حي الميدان بدمشق. وعنوانه
هو: الميدان، موقف الغواص، بناء الدعبول (قريب جداً من مدخل
المُحلّق). ومكتبه في الطابق الأرضي. وهاتف المكتب هو: +(963) 11 882-2315
. ويتواجد في مكتبه عادة بين
الساعة الخامسة مساءً إلى الساعة السابعة مساءً بتوقيت دمشق (مساوٍ
لتوقيت القاهرة)، حيث يجتمع إليه الناس وطلبة العلم من كل صوب
ليسألوه عن أمور دينهم. 2 – سيرته العلمية شخصيته
العلمية وموسوعيته: إن سبب شهرة الشيخ هو اهتمامه
بجانب هام ميّز شخصيته وهو اختصاصه بعلم الحديث النبوي الشريف الذي
نالته هذه الشخصية، فلولا العلم لما كانت له هذه المكانة التي
ارتقاها على صعيد العالم الإسلامي. فالعلم أساس حياة الإنسان،
وعليه تبنى شخصيته، ولا أظن أن هناك من يخالف هذه الحقيقة. ولا أجد
حاجة هنا للتدليل على قولي، فكتاب الله تعالى وأحاديث نبينا صلوات
الله وسلامه عليه فيها دروس وإرشادات كثيرة في هذا المجال. والشيخ
–حفظه الله– بالإضافة إلى موسوعيته العلمية الفذة، وتبحره في علم
الحديث، فهو بجيد اللغة الألبانية، بشكل ممتاز، ويلم بشيء من اللغة
الفرنسية، وهذا مما ساعده كثيراً في هدفه السامي في نشر كلمة
التوحيد والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. ولا نجد في شخصيته الغرور ولا
الكبر، بل يتواضع لكل الناس ولا يخدعه مظهر من مظاهر الدنيا. ولا
سيما أن النفس لها حظوظ في مثل هذه الحالات.
فهو عارف بحقيقة عبوديته لله عز وجل. ولذلك اتصف بالصفات النبيلة،
ولا يرضى بالألقاب، فأعز لقب يحرص عليه هو « العبد الفقير» ويأبى
ما سواه. وقد حَبَّبَ الله إليه دراسة الحديث النبوي الشريف منذ
الصغر فعكف عليه، يقول الشيخ: «كنت في فترة الاستراحة بين الحصص
المدرسية أحفظ خمسة أحاديث. فكنت متمتعاً بذاكرة طيبة وقدرة على
الحفظ كبيرة بحمد الله تعالى وعونه». شيوخه
وتلاميذه: لم يدرس الشيخ دراسة أكاديمية،
فقد تلقى علومه على يد علماء عصره. فطلب العلم على يد الشيخ عبد
الرزاق الحلبي –رحمه الله–، و كذلك على يد الشيخ «محمد صالح
الفرفور» –رحمه الله– من علوم العربية والفقه الحنفي، والتفسير،
والمعاني والبيان والبديع، حيث لازمه فترة من الزمن تقارب العشر
سنوات. و أخذ عن الشيخ «سليمان غَاوْجي الألباني» شيئاً من الفقه و
علم الصرف. وقرأ القرآن وجوَّده على الشيخ المقرئ «صبحي العطار»
–رحمه الله–. ثم أعاد قراءة القرآن مرة أخرى بتجويده من أوله إلى
آخره على الشيخ «محمود فايز الديرعطاني» المقرئ، تلميذ شيخ القراء
آنذاك «محمود الحلواني» الكبير، بقراءة حفص عن عاصم. و قد زامله في
القراءة عليه: بكري الطرابيشي، و أبو الحسن الكردي، و محمد سكر، و
كريّم راجح، و كلهم اليوم من مشايخ قراء الشام المشاهير. وقولنا
الشيخ «الحلواني الكبير» احتراز عن الحلواني الصغير، و هو ابنه
الدكتور محمد، و هو ممن قرأ أيضا على والده. و الحلواني الكبير هو
محمد سليم بن أحمد الحلواني الحسيني الشافعي مترجم في "تاريخ علماء
دمشق" (2\603). وشيخنا جميل الصوت بالقراءة، في
صوته (اليوم) بحة، قريب منه صوت الألباني بالقراءة، و للناس في
جميل الصوت أذواق. وما عهِدناه إلا محافظاً على الصلوات الخمس، ترى
على صلاته أثراً مما يُذكَرُ عن صالحي هذه الأمة من السلف الطيبين
و من تبعهم بإحسان. وقد قال عنه الشيخ محمود فايز: «هذا الغلام
قراءته سليقية». وفي أيام شبابه قرأ على الشيخ
«محمد صالح الفرفور» شيئاً من اللغة العربية والفقه الحنفي،
والتفسير، والمعاني والبيان والبديع، حيث لازمه فترة من الزمن
تقارب العشر سنوات مع طلابه. ويُعتبر الشيخ «سعيد الأحمر التلي»
–رحمه الله تعالى– معلِّمه في مهنة الساعات هو أوّل من وجهه إلى
طريق طلب العلم ودلّه عليه، فكان له الفضل الأكبر في تشجيعه لطلب
العلم الشرعي.
و منذ ذلك الحين و الشيخ منكَبٌّ على تعلم العلم و دراسته. وسعيد
الأحمر مترجم في "تاريخ علماء دمشق" (2\961). و أعلى من هؤلاء كلهم أخذه عن
علامة الشام و سلفيها الشيخ بهجة البيطار رحمه الله. وقد قال مرةً
مؤذن مسجد الدقاق –و هو ممن كان أدرك الشيخ بهجة البيطار– لأحد
أصحابنا (لما سأله عن الشيخ بهجة): «من أراد أن ينظر إلى الشيخ
بهجة، فلينظر إلى الشيخ عبد القادر. فالشيخ أشبه الناس بسمته!». و
هذا –بإذن الله– صِدقٌ و حق. فإن كثيراً من أهل الشام يحكي عن
الشيخ بهجة من الخُلُقِ و الهدي ما يشبه ما نراه في العلامة عبد
القادر الأرنؤوط حفظه الله. وكان شيخنا صاحباً للألباني
محبا له –كما سيأتي تفصيله– و للشيخ زهير الشاويش و للشيخ شُعَيْب
الأرناؤوط. و قد صاحب الشيخ جمعاً من أهل العلم ممن يكبرونه قليلاً
أو يصغرونه قليلاً، فاستفاد من صحبتهم. و هكذا طلبة العلم، ينبغي
أن يختاروا ثُلَّةً من الأصحاب الذين يتذاكر معهم العلم، و يستخرج
بجودة قرائحهم فرائد العلم و دقائقه. فانظر –رعاك الله– أحمد بن
حنبل من كان أصحابه و أقرانه: ابن معين و ابن المديني و إسحاق بن
راهويه و الحميدي و غيرهم، يذاكر العلم مع تلامذته البخاري و أبي
زُرعة و الدّارميّ و ابن وارَة و غيرهم، كيف يكون ذهن و قريحة من
هؤلاء أصحابه و جلساؤه؟
أما تلاميذه فإن الشيخ –حفظه
الله– يعتبر هؤلاء الذين درسهم طوال هذه السنين هم إخوة له يتدارس
معهم العلوم الشرعية.
رحلاته
العلمية: رحل الشيخ إلى بلاد عديدة، ولم
يكن يمنعه بُعد المسافة ومشاق السفر عن هدفه السامي في سبيل الدعوة
إلى الله تعالى القائل في كتابه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن
دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. فكانت معظم رحلاته العلمية منحصرة
إلى مسقط رأسه «إقليم كوسوفا في يوغسلافيا» وما جاورها من البلاد
المتعطشة للإسلام كألبانيا. فآثاره وجهوده لا تنكر، وفضله لا ينسى
في تلك البلاد. كما أن الشيخ يتوجه باستمرار إلى بعض البلاد
العربية والإسلامية للمشاركة في المؤتمرات وإلقاء المحاضرات
والندوات العليمة المفيدة. سلفيته: إن من أهم الأسباب التي أدت إلى
بعض الخلافات مع علماء عصره هو أن الشيخ –حفظه الله– لا يتبع
مذهباً من المذاهب يقلده تقليداً أعمى، وإنما يتبع المذهب الأقوى
اعتماداً على الدليل الذي استند إليه صاحب القول أيَّاً كان مذهبه.
ويقول الشيخ في مسألة التزام الإنسان مذهباً معيناً: «في المسألة
تفصيل: فبالنسبة للعامي لا مذهب له ومذهبه هو مذهب مفتيه، فالتزامه
بمذهب يكون أمراً طبيعياً. وطالب العلم الذي في أوّل أمره لا
يستطيع أن يمِّيز بين الأقوال الصحيحة والضعيفة، فهو يعمل ضمن ما
يسمع من شيخه. أمّا بالنسبة لطالب العلم المتمكّن الذي درس الفقه
المقارن، وعرف دليل كل إمام من الأئمة، فإنه عندئذٍ يستطيع أن يميز
بين القول الصحيح والضعيف. وأرى أنه في هذه الحالة لا يحق له أن
يكون مقلِّداً». ومن هنا يتضح لنا بأن الشيخ
–حفظه الله– لا يلتزم مذهباً معيناً، وإنما يعمل بالكتاب والسنة
على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، وبما قاله العلماء
الجهابذة النقّاد. فهذه طريقته في الفقه: يأخذ بما دل الدليل عليه،
غير مقلِّدٍ أحداً من العلماء، إذا اتضح له أن الحق لم يكن حليفه.
فهو على هذا من فقهاء المحدِّثين. والشيخ لا يرضى بالتقليد دون
معرفة الدليل، حيث يتبع قاعدة الدليل الأقوى معتمداً على أمهات
الكتب الفقهية (كالمغني لابن قدامة، والمجموع للنووي، وفتح القدير
للكمال بن الهمام وغيرها). فينظر في دليل كل واحد ويأخذ الأقوى
منها اعتماداً على تخريج الأحاديث من الكتب المعتمدة كأمثال كتاب
نصب الراية للزيلعي، والتلخيص الحبير لابن حجر وغيرها من الكتب.
وقد قام بتخريج كل الأحاديث النبوية في السنن الأربعة والموطأ
وأرفق أحكامه عليها في كتاب "جامع الأصول" المطبوع بتحقيقه. شيخنا –حفظه الله– من المهتمين
جداً بتراث شيخي الإسلام ابن تيمية و ابن القيم. و هو معروفٌ لدى
فقهاء الشام بأنه يُفتي بما كان عليه شيخ الإسلام في مسائل الطلاق
عدا مسألة طلاق الحائض (فلِلْشيخ فيها رأي عملي آخر، لأن فيها
نظراً كبيراً يوقف عنده). و يَذكر الشيخ عن نفسه أن من أوَّلَ ما
أثَّر في نفسه في مبتدأ الطلب: كتاب "الوابل الطيب" لابن القيم.
وشيخنا سَلَفِيٌّ صَرْفٌ، يحب السلفيّين و يجتمعون عنده. و لا شك
أنه اليوم –بعد وفاة الشيخ ناصر– شيخ سلفيي الشام و مُحَدِّثَها
بلا مُنازع. و يفرق عن الشيخ الألباني في طريقة الدعوة و الأسلوب
المنتهج فيها. فقد قال هذا من يعرف الشيخين: إن الله جعل للشيخ عبد
القادر القبول في دعوته بالشام، ما لم يجعل للألباني رحمه الله. و
هذا لأن الشيخ حفظه الله كان ألْيَنَ و أسهَلَ مع المُخالف ترغيباً
له في الحق و الهدى. و هذا ليس مطرداً مع المعاندين من أهل البدع. و أستطيع أن أقول –و العلم عند
الله– إن الشَّبَهَ بين ابن تيمية و شيخنا لكبيرٌ جداً. خاصةً في
باب الدعوة و سبيلها. فإنك تندهش من اجتماع العامة على الشيخ عبد
القادر، تماماً كما يذكر أصحاب الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله. و وَالله ما سمعت بصفةٍ ذكروها عن شيخ الإسلام ابن
تيمية، إلا وقد وجدتها عند شيخنا عبد القادر. لكن الشيخ عبد القادر عندما
يسأل هل أنت سلفي؟ يقول –حفظه الله–: «الحقيقة في أن يلتزم الإنسان
منهج السلف شيء، وأن يدَّعي أنه سلفي شيء آخر. أنا لا أقول عن
نفسي: "إني سلفي"، بل لا أملك ذلك. وإنما أحاول قدر ما أستطيع أن
أعمل بمنهج السلف وأقوالهم. وإذا ما سألتَ عن مذهبي أقول: أنا
مسلمٌ أعود إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وأقوال الأئمة بأدلتها. وأعمل بما هو الأقوى والأرجح الذي رَجّحهُ
العلماء على منهج السلف الصالح». أقول: هذا حال من هو سلفيٌّ
حقيقةً. فكيف حال من يدعيها و هي تَفِرُّ منه؟ نسأل الله السلامة. قصة طرده من مجلس الشيخ
الفرفور و ظهور سلفية شيخنا لقد كان شيخنا عبد القادر
تلميذا -كما أسلفنا- للشيخ صالح الفرفور، قرأ عليه -كعامة من كان
يقرأ في معهد الفتح- من علوم العربية و المعاني و البيان و البديع
و الفقه و التفسير الكثير في مدة تقرب من عشر سنوات. و كان مما
قرأه من كتب الفقه الحنفي: حاشية ابن عابدين، و حاشية الطحطاوي، و
نور الإيضاح، و مراقي الفلاح، و غيرها. و كان أثناء قراءته على الشيخ
صالح في الحاشية لابن عابدين، تمرُّ بهم أحاديث، فيسأل الشيخ عبد
القادر عنها صحة و ضعفا و نحو ذلك، فكانت الكلمة المشهورة
المتداولة على ألسنة الصوفية تخرج من فم الفرفور كالسهم: «لا تعترض
فتنطرد»! و في إحدى المرات اشترى شيخنا
كتاب "الوابل الصيب" لابن القيم من إحدى المزادات بدمشق، و لما لم
يكن له مكتبة يومئذ. و كان الشيخ عبد الرزاق الحلبي متميزاً في
ذلك، حيث كانت له مكتبة خاصة في جامع فتحي، أراد الشيخ أن يلحقه
بمكتبته. فعلم بذلك رمزي البزم –و كان أكبر طلاب الفرفور سِنّاً–
فقال بعد أن سمع بوضع شيخنا للكتاب بمكتبة الحلبي، بعد أن أنهى
الفرفور درسه بالأموي: «عبد القادر، الليلة عندك محاكمة»!! هكذا مع
إحداث ضجة في حلقة الدرس. و فعلا أشار إليه الفرفور و إلى الحلبي و
إلى البزم أن قوموا إلى مكتبة الشيخ عبد الرزاق، و هنا جرت
المحاكمة و هذا سياقها: قال الفرفور للشيخ عبد القادر:
لِمَ جئت بالكتاب؟(يريد: الوابل الصيب). قال شيخنا: «لأني قرأت في
مقدمته: في الذكر مئة فائدة، ثم سردها». فقال الفرفور: هل تعرف ابن
القيم تلميذ من؟ قال شيخنا: «تلميذ ابن تيمية». قال الفرفور: نحن نقرأ لابن
تيمية؟! قم و خذ صاحبك معك –يعني الشيخ شعيب–. ثم جرت أحداث، لها
موضع آخر. و الله يحفظ شيخنا العلامة المربي بقية السلف: عبد
القادر الأرنؤوط، و يطيل في عمره على طاعته، ويبقيه شوكة في حلق
المبتدعة. موقفه
من بعض مسائل عصره: 1– مسألة الطلاق الثلاث بمجلس
واحد هل يقع واحدةً أم ثلاثاً؟ يقول الشيخ في فتواه لهذه
المسألة: «كما هو معروف أن الجمهور قالوا
في أن الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع ثلاث تطليقات وينهي العلاقة
الزوجية. وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم
وهما من الأئمة الحنابلة. فقالا: يقع طلقة واحدة. والأصل في مخالفة
الجمهور خطأ. ولكن إذا ثبت دليل، فلا مانع من الأخذ به. وهو الحديث
الصحيح الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس t
أنه قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن
الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمْرٍ قد كانت لهم فيه أناة. فلو
أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم". فالحديث هنا صريحٌ في ذلك، وهو أنهم
كانوا يعدُّون الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وما فعل عمر ذلك، إلا لأنه رأى أن من المصلحة والحكمة وقد كثر
الطلاق أن يمضيه ثلاثاً، ففعله هذا تربية لرعيته. وورد غير هذا،
والله أعلم». و فقهاء الشام مثل الشيخ
الدكتور مصطفى البغا و غيره إذا جاءهم السائل في مسألة الطلاق
بالثلاث، قالوا: إذهب إلى الشيخ عبد القادر، مع قولهم: إن الشيخ
يفتي بهذا حسب قناعته، أخذاً بالتيسير على العامة. و الشيخ عفيفُ
اليد، لا يأخذ شيئاً من أحد. بل لقد غَضِبَ ذات مرّة غضباً شديداً
من أحدهم، لمّا أخرج له مالاً مُقابل الفتوا و أصرّ في هذا، ظَنّاً
من المسكين أن الشيخ كأشباه العلماء الذين عُرفوا بالشام بأخذهم
الأموال الكثيرة لأجل إفتائهم بأن الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ أو في
مجلسٍ واحدٍ: واحدة. 2– قوله في
الطلاق المعلق على شرط: يقول الشيخ –حفظه الله–: «إذا
تحقّق الشرط، أُفتي بأن: فيه كفارة يمين. لأن هذا اللفظ في معنى
اليمين، وهو لا ينوي الطلاق، وإنما ينوي المنع، وكان هذا شأنه،
ففيه كفّارة، وإن كان الحالف بهذا اللفظ آثماً لحلفه بغير الله.
والله أعلم». موقفه
من التصوف والغلِّو في فهم التصوف: حرص العلماء العاملون المخلصون
لدين الله عز وجل، السائرون على منهج سلفنا الصالح رضوان الله
عليهم أن يبقى المجتمع الإسلامي نقياً من كل شائبة، بعيداً عن
الانحرافات في العقائد والمسالك، سليماً م الآفات والعيوب، وذلك
بتمسكهم والتزامهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وعرض كل أمر مُسْتَجْدٍّ ومشكلة مستحدثة على ميزان الكتاب والسنة.
لا يحيدون عنهما، يدركون بذلك مسئوليتهم أمام الله عز وجل على هذه
الأمانة التي أُوكلت إليهم. والتصوف قد أثرت فيه عوامل
أجنبية ودخلت فيه البدع على مر الزمان. وقد رفض كثير من الصوفية
الأوائل كل محاولة لإخراجه عن الشرع، وجعلوه مقيداً بالقرآن
والسنة. وكان الجنيد يقول دائماً: «عِلمنا هذا مقيد بالكتاب
والسنة.فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، ولم يتفقه، لا يُقتدى به».
وكان يقول: «عِلمُنا هذا متشبِّك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وقال أبو سليمان الداراني: «إنه لتمر بقلبي النكتة من نُكَتِ
القوم.فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل، من الكتاب والسنة». وقال
النصرابادي: «أصل هذا المذهب: ملازمة الكتاب والسنة والاقتداء
بالسلف. وترك الأهواء والبدع، وترك ما أحدثه الآخرون. والإقامة على
ما سلكه الأولون». لذلك لا يرى شيخنا –حفظه الله–
مانعاً أن يكون التصوف بمعنى الزهد في الدنيا والتقوى، والورع،
ومراقبة الله عز وجل ضمن الحدود الشرعية. ولا يرضى عن تلك الأمور
الخارجية عن الكتاب والسنة. كما أنه يحارب البدع، وهي كل ما أُلصق
بالدين وهو ليس منه، ويرفض كل ما يدخل في العبادات أو الأقوال مما
يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يتضح لنا موقفه من
التصوف من حاله أكثر من لسان مقاله، فحياته ملؤها العبادة والطاعة،
وأساسها العلم وغايتها مرضاة الله عز وجل. ويضيف قائلاً: «التصوف
عندي هو ما كان بمعنى الرقائق التي تُليِّن القلوب وتهذِّب النفوس
أمثال كتب ابن القيم –رحمه الله–. وإن أوّلَ مَنْ أثَّر في نفسي في
أول طلب العلم هو الإمام ابن القيم عندما قرأت كتابه "الوابل الصيب
من الكلم الطيب". وأما كتب الصوفية البعيدة عن منهج الحق، فلا أعمل
بها وأنتقدها...». هذا، وقد تكلم العلماء عن
التصوف، وكتبوا فيه وردوا على باطله، وأشادوا بما فيه من الحق كما
يتضح لنا ذلك في رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية مثل: «العبودية» و
«التحفة العراقية في الأعمال القلبية» و «رسالة الفقراء»، وغيرها
من الفتاوى والرسائل والبحوث التي ظهرت في مجلدين من «مجموع
فتاويه»، أحدهما تحت عنوان «السلوك». وكذلك مؤلفات تلميذه المحقق
ابن القيم في ذلك وهي كثيرة منها: طريق الهجرتين، وعدة الصابرين،
وذخيرة الشاكرين، والداء والدواء، وأعظمها «مدرج السالكين شرح
منازل السائرين». طريقته
في التربية: و الشيخ –حفظه الله– عالم مربٍّ
يُربّي الناس بصغار العلم قبل كباره. و لذلك أقبلت العامة –بدمشق و
غيرها من المدن– عليه، حيث وَجَدَتْ عنده أُنْسَ المستوحش، و حنان
المُربّي. فالشيخ معروفٌ بعُلوّ أخلاقه و نزاهة باطنه. لا تَسمَعهُ
يذكر أحداً بسوءٍ أو يطعن فيه، إلا مبتدعاً مجاهراً مغالياً في
بدعته. لا ترى و لا تسمع منه كلمةً نابيةً. فهو مجمعٌ للفضائل.
وكان صورةً من شيخه العلامة محمد بهجة البيطار العالم السلفي
التيمي رحمه الله. و قد تصدر شيخنا حلقة شيخه بعد وفاته، فصار
يُدرّس في مسجده كتب العلم –و منها التفسير– و ذلك بعد صلاة الفجر
من كل يوم. و شيخنا –حفظه الله– جوادٌ
كريمٌ لا تكاد ترى مثله و إن كان له نظائر –بحمد الله–، لا يردّ
أحداً من المحتاجين. كم و كم رأيناه يعطي طلبة العلم و ينفق عليهم،
و بالأخص من الغرباء من الألبانيين و غيرهم. وهو كريمٌ يكرم جلساءه
بما عنده من طيب الكلام قبل طيب الطعام، يظن الجالس عنده أنه سيد
الجلسة، و أنه الأقرب إلى قلب الشيخ و نظره، هكذا يحس الجالس عنده،
لا يترك أحداً إلا و يسأله عن اسمه و أين يسكن و يسترسل معه و يفخم
من أمره إن كان من طلبة العلم تشجيعاً له. و مجالس الشيخ مجالس
فيها من العلم و الأدب و الطرفة ما يذكر عن مجالس العلماء، هذا
سائل فيجيبه الشيخ و هذا مناقش و هذا مسترشد. و يتخلل كل هذا طرفة
من الشيخ، فهو بشر يضحك مما يضحك منه الناس. وهو رجل اجتماعي يحبُّ
الناس. اجتمع فيه الكثير من خصال الخير –نحسبه كذلك و لا نزكيه على
ربنا–. 4- سيرته مع العلماء: أقوال بعض علماء عصره فيه: يقول الشيخ الدكتور وهبة
الزحيلي (رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بكلية الشريعة بجامعة
دمشق) عنه: «إني أعرف الأخ الشيخ عبد القادر منذ زمن بعيد، وقد
صاحبته في سفرٍ إلى روسيا. وهو يتميز بسلامة لُغتِه، وقوة
حافِظَته، وتقواه، و وَرَعِهِ، ومحبة الناس له، ومعرفته بأحكام
الحلال والحرام، وتميزه بحفظ الأحاديث النبوية: بالرجوع إلى
مصادرها وضبطها ومعرفة الأحكام المترتبة عليها. ويتميز أيضاً بأنه
ذو خُلُقٍ كريم، وأدب رفيع، ويحترم أهل العلم، ويجد فيهم ويجدون
فيه أُنْساً وفضلاً وحُباً للسُّنة النبوية والعناية بها. وقد شهد
له عالم التأليف والتصنيف، تحقيقاتٍ كثيرةٍ دقيقةٍ وجيدةٍ وممتازةٍ
مثل تحقيق كتاب "جامع الأصول" لابن الأثير الجزري، وغيرها من كتب
الحديث. وكل ذلك إنما يُنبئ عن عِلمٍ غزيرٍ، وفَهمٍ دقيق، ومتابعة
للروايات، وتعرف على رجال الحديث والسنة...». ويقول الشيخ الدكتور مصطفى ديب
البغا –حفظه الله– (أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة بجامعة
دمشق) عنه: «الشيخ عبد القادر رجلٌ عالمٌ، طيبٌ، وورع، ومُحَقّقٌ،
ومعتدلٌ في مواقفه. هذا ما أعرفه عنه. وفي مسألة فتواه عن الطلاق،
فهو يقصد منها التيسير على الناس، وليس التساهل في الدين». ويقول فضيلة الأستاذ محمد رياض
المالح –رحمه الله– عنه: «نشهد بأن الشيخ عبد القادر –حفظه الله،
ونفع الأمة بعلمه– رجلٌ فاضلٌ عفيف اللسان. وهذا شأن العلماء. و
الجميع يشهد بنزاهته، وتواضعه، ومعاملته الحُسنة للآخرين. وإننا
جميعاً نُقدِّرُ عمله العظيم في تحقيقه لكتاب "جامع الأصول" الذي
لاقى قبولاً كبيراً بين الناس، وحَقَّقَ للجميع النفع والفائدة
المرجُوّة». ويقول الشيخ عبد الرحمن
الشاغوري –حفظه الله– عنه: «إن الشيخ عبد القادر رجلٌ مستقيمٌ،
يحبنا ونحبه. وقد صحبته مُدَّةً طويلةً من الزمن خلال تدريسي في
معهد العلوم الإسلامية عند الشيخ "عبد الله دك الباب" حيث كُنا على
أشد المساعدة والتعاون والائتمان. ولم نر له أخطاءً طوال هذا
المدة، فهو حافظٌ لسانه، وحافظٌ كيانه. وهذا ما أعرفه عنه. كما أنه
يتَحَرّى دائماً في فتواه، فلا يعتمد على عقله، إنما يعتمد على
الأحاديث الصحيحة. نسأل الله لنا وله التوفيق». وهو يثني على علم الألباني
بالحديث. لكن الشيخ لا يوافقه على آرائه الاجتهادية في المسائل
المعروفة التي أفتى فيها الشيخ الألباني بما أداه إليه اجتهاده
كمسألة الذهب المحلق و غيرها. لكن هذا في العلم، أما القلبُ، فأشهد
أن الشيخ يحبه و يجله، و الشيخ ناصر يحبه و يجله. و إن كنت ترى
الألباني يرد عليه، فهذه يا أخي طريقته المعروفة في عدم محاباة أحد
في الحق كائناً من كان. و الشيخ إذا زار الأردن زار الشيخ ناصر
الألباني. و الألباني رحمه الله كذلك يكرمه و يجلّه. بل إن أحد
الثقات نقل لنا أن الشيخ الألباني سئل عمن تنصح بأخذ أحكامه على
الأحاديث من بعدك فقال: الشيخ عبد القادر الأرنؤوط. و أشهد لقد كان بعض المغرضين في
مجلس الشيخ من سوء أدبهم: كلما تكلم الشيخ ذكروا الألباني و خلافه.
كأنما يريدون غضبةً من الشيخ عبد القادر في حق الشيخ الألباني –كما
هي طريقة من لم يتأدب بأدب العلم و ما أكثرهم في مجالس العلماء و
للأسف–، فقال الشيخ عبد القادر قولة شديدة فيها إلجام لهؤلاء –بعد
أن عرف قصدهم–: «الشيخ ناصرٌ صاحبُنَا و صديقُنا ليس بيني و بينه
شيء، ذاك شعيب الأرنؤوط». لأن كثيرا من عوام السلفيين
يخلطون بين الشيخ شعيب الأرنؤوط و شيخنا عبد القادر، و يظنون أن
بينهما نسباً. و ليس الأمر كذلك، فالشيخ عبد القادر ليس بينه و بين
شعيب نسب، و الألباني أقرب إلى شيخنا بلدةً من شعيب، و كلهم أصولهم
ألبانية كما قال شيخنا. و الشيخ عبد القادر سلفيٌّ معتقَداً و
عِلماً و طريقةً و سُلوكاً، بخلاف شعيب الأرنؤوط فلا يزال حنفياً،
و في تعليقاته العقدية ما فيها، و قد انتقده غير واحد فيما كتبه
على السير و غيره، كما فعل الدكتور محمد بن خليفة التميمي. و لو
سلمنا أنه بينهما شيء، فماذا كان؟ نجرح من خالف الشيخ الألباني
هكذا! إن الأمر المتنازع فيه يُنظر فيه و يُستَمع فيه إلى أقوال
المتنازعين كما قرِّر في موضعه من كتب الفقه. و مع هذا فقد سأل أحد إخواننا
الشيخ عن علاقته بالألباني هل هي قوية؟ فأجاب بأنها جيدة و هو
يزوره إذا نزل الأردن، و أن الألباني يرسل له مؤلفاته الجديدة، و
أراه منها صحيح الأدب المفرد و ضعيفه. وهل تعلمون: أن الشيخ عبد
القادر يُدرِّس صحيح الأدب المفرد للألباني. بل قد ينظر في كتب
الألباني كالصحيحة و الإرواء و الضعيفة بحضرة طلبته دون أي حرج،
إذا ما أراد أن يستخرج الحديث. هكذا الشيخ عرفناه لا يستحي من
تدريس كتاب الألباني، لأن العلم رَحِمٌ بين أهله. و أما عن علاقته بابن باز، فقد
أرسله ابن باز إلى ألبانيا للدعوة. و لا يزال الشيخ إلى اليوم
يسافر إليها للدعوة و تعليم الناس. فالشيخ يتقن اللغة الألبانية،
مما ساعده على سهولة مخاطبة المدعوين.
الشيخ وعلوم الحديث النبوي الشريف
مسموعاته: إن معظم مسموعات الشيخ، كانت من
المشايخ في بداية طلبه للعلم حيث لم يكن له مسموعات بشكل خاص في
علم الحديث، إنما كانت له اطلاعات عامة حيث قرأ في البداية كتاب
صحيح مسلم من أوله إلى آخره، فحُبِّب إليه قراءة كتب السنة وقراءة
كتب شراح الحديث أمثال ابن القيم حجر العسقلاني وغيره.
اجتهاده
في الحديث وبيان محفوظه منه: ليس للشيخ اجتهاد خاص في علم
مصطلح الحديث، إنما يعمل بما سار عليه علماء الحديث المتأخرين
وشرّاحه. وبخاصة الحفاظ المتأخرين من أمثال الحافظ ابن حجر
العسقلاني والحافظ العراقي.
أما عن محفوظ الشيخ. فالشيخ من
خلال عمله في مجال تحقيق الكتب مدة طويلة واهتمامه بعلم الحديث،
يحفظ ما يقارب عشرة آلاف حديث. ويؤكد على جانب من الأهمية: أن
سلامة المُعتَقَد شرطٌ معيناً، قد يميل ويتعصب إليه، فيؤثر عليه في
منهجه من خلال تصحيحه وتحسينه وتضعيفه للحديث مثلاً.
و الشيخ عبد القادر يتمتع
بحافظة قوية. يذكر عن نفسه أنه كان يحفظ خمسة أحاديث في فترة
الاستراحة بين الحصص في زمن الدراسية الأكاديمية. فكان يتمتع
بحافظة قوية –أدامها الله عليه–. و هذا معروفٌ عن الشيخ. فالشيخ
حافِظٌ من الحُفّاظ، قَلَّ أن يُسأل عن حديثٍ إلا و يَسوْق لك
مَتْنَهُ كاملاً. كم اندهشت من سُرعة استخراجه للحديث من الكتب.
فإني كنت أجالس الشيخ في مكتبته العامرة، فيدخل عليه صنوف الناس ما
بين سائِلٍ و مُستَرشِدٍ و مُتَحاكِمٍ إليه للإصلاح في أمور
المنازعات –في الطلاق و غيره– فكان الشيخ موسوعةً في استخراج
الحديث من مَظَانّه. يمُدّ يده إلى الكتاب، فيُخرج منه الحديث
المسؤول عنه بسرعة عجيبة –حفظه الله–.
و كان كثيراً ما يُكرّر على
طلبته مقولة بِشْر بن الحارث الحافي: «يا أصحاب الحديث، أدّوا زكاة
الحديث». قالوا: «و ما زكاته؟». قال: «أن تعملوا من كل مِئتي
حديثٍ، بخمسة أحاديث». و هذا الأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية
(8\337)، و الرافعي في التدوين (2\427) –و اللفظ له– و البيهقي في
الشّعب (1805) و هو صحيح عنه. و لذلك كان الشيخ يشرح في بعض دروسه
خمسة أحاديث في مجلسٍ واحد.
إملاؤه
الحديث وتدريسه: عمل الشيخ مدرساً لعلوم القرآن
والحديث النبوي الشريف بين عامي (1952م – 1959م) في مدرسة «الإسعاف
الخيري» بدمشق (التي درس فيها). وقد أدرك فيها شيخه في التجويد:
المقرئ صبحي العطار –رحمه الله–.
وفي عام (1381هـ – 1960م) انتقل
إلى المعهد العربي الإسلامي بدمشق، فدرَّس فيه القرآن والفقه. ثم
انتقل إلى التدريس في معهد الأمينية، و منه إلى معهد المحدث الأكبر
الشيخ بدر الدين الحسني بدمشق.
هذا بالإضافة إلى ذلك، فهو يقوم
بتدريس ما يقارب الخمسين طالباً من مختلف بلدان الأرض مادة الحديث
وغير ذلك. ويدرّس الألبان منهم بلغتهم الألبانية.
و قد قام الشيخ نفع الله به
الأمة بتدريس جمع كبير من المصنفات، منها:
·
كتب
التوحيد و العقيدة.
·
«الباعث الحثيث» شرح الشيخ أحمد محمد شاكر على مختصر علوم الحديث
لابن كثير الدمشقي صاحب التفسير.
·
«إرشاد
طلاب الحقائق لمعرفة سنن خير الخلائق»للإمام النووي. و هو مختصر
لكتاب ابن الصلاح، و اختصر منه «التقريب» الذي شرحه السيوطي في
كتابه «تدريب الراوي».
·
«قواعد
التحديث في شرح فنون مصطلح الحديث» للشيخ السلفي جمال الدين
القاسمي.
·
«فتح
المغيث في شرح ألفية الحديث» للحافظ السخاوي.
·
«تدريب
الراوي شرح تقريب النواوي» للسيوطي.
·
«زاد
المعاد» لابن القيم.
·
«مختصر
صحيح البخاري» للزبيدي مع شرحه «عون الباري» لصديق خان.
·
«كفاية
الأخيار» للحصني في الفقه الشافعي بالمعهد.
·
«صحيح
الأدب المفرد».
·
«مختصر
تفسير الخازن» للشيخ عبد الغني الدقر.
·
و
غيرها كثير.
وظائفه
العلمية و نشاطه الدعوي ودفاعه عن السنة: ولما كان الشيخ في الستين من
عمره ومتمتعاً بقوة الشباب، كان يسافر إلى بلده كوسوفا، في
يوغسلافيا كل عام عدة أيام داعياً إلى الله. وكان يلقي المحاضرات
والخطب، ويعقد الندوات ويناقش الجانحين عن الحق باللغة الألبانية،
مبيناً سبيل الهداية والرشاد، وداعياً الناس إلى جادة الصواب،
للتمسك بالدين الحنيف، والعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وترك البدع والشذوذ والضالات.
واستطاع الشيخ بفضل من الله أن
يدخل إلى قلوب الناس بتواضعه ومحبته لهم وحسن أخلاقه. ولقد عرفه
أهل دمشق وغيرها في خطبه على المنابر، وفي دروسه في المساجد،
بجرأته على قول الحق وبمنهجه في الدعوة، ودفاعه عن السنة النبوية
الشريفة، متسلحاً بالتقوى والإخلاص لله تعالى. وهو سلاحٌ يتسلح به
كل داع إلى الله إذا أراد لدعوته أن تقوم لها قائمة أو تنشط من
سبات.
وقد اتخذ الشيخ –حفظه الله–
الدعوة إلى الله والدفاع عن السنة منهجاً في حياته. وتقلد الشيخ
الوظائف العليَّة في ديننا، (لكنَّها عند أهل الدنيا ليست كذلك):
1)
فقد
تقلّد الخطابة في سنة (1369هـ – 1948م) وكان عمره آنذاك عشرين (20)
سنة، حيث كان خطيباً في جامع «الدّيوانية البَرَّانية» بدمشق، حيث
بقي فيه خطيباً لمدة خمسة عشر (15) عاماً.
2)
ثم
انتقل إلى منطقة «القَدَم» بدمشق، حيث قام ببناء مسجد فيها بمساعدة
أهل الخير، وسماه جامع « عمر بن الخطاب». وعمل فيه إماماً وخطيباً
لمدة عشر سنوات. و «القدم» حيٌّ في أطراف دمشق، يقول بعض العوام أن
في تلك المنطقة أثر قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم،
وهذا كذب إذ أنه في رحلته للشام في صغره لم يتجاوز بُصْرى، كما
يعلم الجميع.
3)
ثم
انتقل إلى منطقة «الدحاديل» بدمشق، وكان خطيباً في جامع « الإصلاح
» وبقي فيه مدة عشر سنوات.
4)
ثم
انتقل إلى جامع «المُحمّدي» بحيّ الـمِـزَّة، وبقي فيه خطيباً ما
يُقارب ثماني سنوات. و كنت أحضر فيه خطبه. (و «المِزَّة» كانت في
الماضي قرية عند جبل يسمى باسمها في غوطة دمشق. وهي الآن من
الأحياء الراقية في مدينة دمشق نتيجة التوسع العمراني). ثم منع
الشيخ من الخطابة و غيرها بسبب كلامه عن الاحتفال بعيد رأس السنة و
ما ساقه في الخطبة من القول بكفر الصرب النصارى و غيره، فاشتكى
عليه الصوفية العملاء و قالوا: إنه يكفر النصارى!... إلى أشياء
أخرى لا نود ذكرها هنا.
5)
لكن
الشيخ بقي يلقي دروسه في معهد الأمينية (وهي مدرسة قديمة للشافعية،
لها مبنى جديد في جامع الزهراء بالمزة). وهو الآن يقوم بالتدريس
والوعظ ولا يترك مناسبة من زواج أو وفاة إلا ويتكلم فيها وينبه
الناس إلى السنة الصحيحة ويدعوهم إلى ضرورة ترك البدع والمخالفات
في الشريعة.
ويقال أن حالته الصحية قد ساءت
لكثرة العمليات الجراحية التي أُجريت له في السنوات السابقة.
هذا مع انكبابه على التحقيق و
التأليف –كما سيأتي الكلام عليه– و تدريسه العلم للناس و إلقاء
المحاضرات. فالشيخ لا تكاد تمر حادثة أو مناسبة من عرس أو وليمة أو
وفاة إلا و يقوم بتبيين السنة من البدعة، مرغباً في الأولى و
مرهباً و محذراً من الثانية.
و خطابة الشيخ قَلَّ أن تجد لها
نظيراً. فإنك لو حضرت له لم تلتفت عنه طرفة عين: يشُدّك بكلامه، و
أسلوبِه في التعبير عمَّا يتكلَّم به. فكم من إشارةٍ كانت معبِّرةً
عن المعنى أكثر من لفظها؟ هذا عدا طريقة كلامه: فالشيخ يعرف متى
يرفع الصوت و متى يخفضه، في طريقة غاية في الجمال، إضافة إلى أن
الشيخ جهوري الصوت. و لقد كان المسجد المحمدي يمتلئ بالمصلين في
خطبة الجمعة، و كذا في مسجد عمر بالقدم.
و من الطرق التي يستعملها في
خطبه أن يورد الحديث بذكر اسم الصحابي و من أخرجه و يترجم لهم
ترجمة مختصرة جداً ثم يشرع في الشرح مستشهدا بالآيات و الأحاديث.و
هذا كله في دقة و تناسب و تنسيق جميل. ثم بعد انتهاء الخطبة يجيب
الشيخ على أسئلة السائلين، في الحديث و الفقه و التوحيد و غير ذلك.
فلا تكاد تخرج من المسجد إلا و قد شحنت إيماناً و علماً. حقًّا إن
من لم يحضر خطب الشيخ يراني مُبالغاً أو مغالياً، لكن هذه ليست
شهادتي بل هي شهادة جميع من أعرفهم من أصحابي و غيرهم ممن كانوا
يحضرون خطب الشيخ. و لقد كان الناس يتدفقون على المسجد المحمدي من
كلّ فَجٍّ و صوب، يأتون إليه من أماكن بعيدة جداً لسماع الخطبة. و
إذا حضرتَ فسمعت الشيخ: ذهب عنك ما تجده من تعب الطريق، و أعقب ذلك
لذة إيمانية مما تسمعه من أحاديث الإيمان!؟
أسباب
هذا العطاء العلمي: مما لا شك فيه ولا ريب، أن
توفيق الله سبحانه وتعالى كان فوق الأسباب كلها التي هيّأت للشيخ
هذه الأعمال الكثيرة. فمن أسباب هذا العطاء العلمي:
1)
تفرغه
التام لخدمة السنة النبوية الطاهرة، وهدفه السامي من دعوته.
2)
بعده
عن الحياة العامة والمجاملات الاجتماعية الفارغة التي لا تليق بأهل
العلم أصلاً.
3)
المنهج
المستقيم الذي اتبعه في حياته وهو منهج السلف الصالح رضوان الله
عليهم، وسلامة معتقده.
4)
حبه
لعلم الحديث النبوي الشريف ودأبه في المطالعة.
5)
كثرة
المراجع بين يديه، إذ لديه مكتبة عامرة بالكتب النافعة والمصنفات،
وخاصة كتب علم الحديث.
6)
ملازمته الطويلة للمكتبة الظاهرية بدمشق مدة طويلة من الزمن للنظر
في المخطوطات والتحقيق فيها.
كتبه و
تحقيقاته: لم يعتمد الشيخ منهج التأليف،
ولكنه اعتمد التحقيق منهجاً له. يقول في ذلك: «... ذلك لأن
المؤلفات كثيرة، والتحقيق أولى. وذلك حتى نُقدِّمَ الكتاب إلى طالب
العلم محقَّقاً ومصحَّحاً حتى يستفيد منه». ويقول الشيخ: «فإني
–بعونه تعالى– حقّقْت أكثر من خمسين كتاباً كبيراً و صغيراً، في
الفقه و الحديث و التفسير و الأدب و غيرها، و هي موجودة في العالم
الإسلامي».
إن باكورة تحقيقات الشيخ هو:
1 – إتمام تحقيق كتاب "غاية
المنتهى" في الفقه الحنبلي الذي بدأ تحقيقه شيخ الحنابلة آنذاك
جميل الشطي –رحمه الله–، حيث طلب من الشيخ إتمام العمل على تحقيقه.
وفي بداية الستينات انتظم الشيخ
للعمل مديراً لقسم التحقيق والتصحيح في المكتب الإسلامي بدمشق،
وذلك بصحبة الشيخ شعيب الأرناؤوط –حفظه الله–. واستمر في عمله هذا
حتى عام (1389هـ – 1968م). وفي غضون ذلك وبعده قام بتحقيق كتب
كبيرة بالاشتراك مع شعيب، وصدرت عن المكتب الإسلامي، منها:
2 – زاد المسير في علم التفسير،
لابن الجوزي في 9 مجلدات.
3 – المبدع في شرح المقنع، لابن
مفلح في 8 مجلدات.
4 – روضة الطالبين، للنووي في
12 مجلداً.
8 – جلاء الأفهام في الصلاة على
خير الأنام، لابن القيم في مجلد.
– مشكاة المصابيح، للتبريزي.
وقد شارك في تخريج أحاديثه الشيخ ناصر الدين الألباني –رحمه الله–.
5 – الكافي، لابن قدامة
المقدسي.
7 – رفع الملام عن الأئمة
الأعلام، لابن تيمية.
6 – مختصر منهاج القاصدين،
للمقدسي.
و أخرج معه أيضا و طبع عن دار
مؤسسة الرسالة:
9 – زاد المعاد لابن القيم في 5 مجلدات. و قد عمل
فيه الشيخ عبد القادر أولا، ثم شاركه شعيب في تحقيقه.
10 – المسائل الماردينية لابن
تيمية، قام بتحقيقها و تصحيحها حيث كان يعمل بالمكتب الإسلامي.
11 – و من أعماله الكبيرة
المشهورة: تحقيق "جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم"
لابن الأثير الجزري. استغرق عمل الشيخ فيه خمس سنوات كاملة مليئة
بالصبر والجهد والعمل الدؤوب. وروعة هذا العمل أن ذلك الكتاب يحوي
الصحيحين وسنن النسائي وأبي داود والترمذي وموطأ مالك. فهو يحوي
على عامة الأحاديث الفقهية ويكاد يستوعب الصحيح منها، لكنه مخلوط
مع الضعيف ومحذوف الإسناد. فالذي قام به الشيخ هو تخريج تلك
الأحاديث والحكم عليها بمنهج معتدل منصف. وبذلك صار بإمكان الفقيه
معرفة حكم الحديث الذي يحتاجه بكل يسر وسهولة. وهو يعمل على طبعة
جديدة له. وعمله الجديد في جامع الأصول هو بمثابة إعادة نظر وتحقيق
جديد له، بالإضافة إلى ضم زوائد ابن ماجة في الحاشية.
12 – الأذكار للنووي – مجلد
13 – مختصر شعب الإيمان للبيهقي
– مجلد
14 – الحكم الجديرة بالإذاعة
لابن رجب.
15 – فتح المجيد شرح كتاب
التوحيد – مجلد
16 – لمعة الاعتقاد لابن قدامة.
17 – التبيان في آداب حملة
القرآن للنووي - مجلد
18 – كتاب التوابين لابن قدامة
– مجلد
19 – وصايا الآباء للأبناء
لأحمد شاكر – تعليق.
20 –الإذاعة لما كان و يكون بين
يدي الساعة لصديق خان.
21 – شرح ثلاثيات مسند الإمام
أحمد للسفاريني – مجلدين. طبع بالمكتب الإسلامي، لكن كان الشيخ
يقوم بالتعليق عليه و شرحه، فلا أدري أنتهى منه أم لا؟
22 - كفاية الأخيار للحصني.
و تحقيقاته من كتب شيخ الإسلام
ابن تيمية كثيرة، منها:
23 – قاعدة جليلة في التوسل و
الوسيلة
24 – الفرقان بين أولياء الرحمن
و أولياء الشيطان
25 –الكلم الطيب
و هناك غيرها، و من كتب ابن
القيّم:
26 –الوابل الصيب
27 – الفروسية
28 - فتاوى رسول الله صلى الله
عليه و سلم لابن القيم
29 –عدة الصابرين
و من الكتب حققها
الشيخ وانتهى منها لعلها لم تطبع بعد (هي الآن في المطبعة في
الرياض):
30 –الشفا للقاضي عياض.
31 – الفتن و الملاحم لابن
كثير.
32 – المتجر الرابح للدمياطي.
33 – شمائل الرسول صلى الله
عليه و سلم لابن كثير.
34 – السنن و المبتدعات
للقشيري.
35 – يقظة أولي الاعتبار بذكر
الجنة و النار لصديق خان.
و له من الرسائل الوجيزة
النافعة:
36 – الوجيز في منهج السلف