هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الموقع الشخصي للكاتب المصري سيد مبارك ( بث مباشر للقنوات الإسلامية - مواقع إسلامية - مكتبة إسلامية شاملة - برامج أسلامية - القرأن الكريم وعلومه)
مؤلفات الشيخ سيد مبارك أطلبها من المكتبة المحمودية بالأزهر الشريف- مكتبة أولاد الشيخ بفيصل- مؤسسة قرطبة بالهرم...مؤلفات الشيخ سيد مبارك أطلبها من المكتبة المحمودية بالأزهر الشريف- مكتبة أولاد الشيخ بفيصل- مؤسسة قرطبة بالهرم
وقيل: يجب منه الوضوء، وهو القول القديم في مذهب الشافعي[2]، والمشهور من مذهب أحمد[3]، وهو مذهب أهل الحديث[4].
دليل الجمهور على ترك الوضوء من لحوم الإبل:
الدليل الأول:
(1091-320) ما رواه أبو داود، من طريق علي بن عياش، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار[5].
[اختصر الحديثَ شعيبُ بن أبي حمزة، فأوقع الجمهور في وهم كبير، وهو أن الأمر بالوضوء مما مست النار منسوخ، ومنه لحم الإبل، وقد ذهب إلى القول بأن شعيبًا اختصر الحديث جماعةٌ من أهل العلم؛ منهم: أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم] [6].
ورد ابن حزم وابن التركماني القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر - رحمه الله تعالى.
قال ابن حزم: القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن، وهو أكذب الحديث، بل هما حديثان كما ورد [7].
وقال ابن التركماني: ودعوى الاختصار في غاية البعد[8].
وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جدًّا، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمْي الرواة الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة، ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها - قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالروايات الصحيحة جملة... إلخ كلامه - رحمه الله[9].
وكلام أهل العلل - كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم - لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني؛ وذلك أن ابن حزم - رحمه الله - لم يكن من أهل العلل أصلاً، وليست له عناية في هذا الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - إنما هو من قبيل حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة - بل الأئمة - قد يقع لهم بعض الأوهام، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهامًا لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والله أعلم.
وبناء عليه؛ فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء، ثم أكل لحمًا وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب.
وأن لحوم الإبل ليست العلة في الأمر بالوضوء منه كونه مما مسته النار، وإلا لم يكن هناك فرق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل؛ لأن الجميع قد مسته النار، ومع ذلك فرق بينهما في الحكم في الحديث، كما في حديث جابر والبراء بن عازب، وسوف نأتي على ذكرهما - إن شاء الله تعالى.
وقد يقال أيضًا: إن ترك الوضوء مما مست النار عام، والأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام، خاصة إذا علمنا أن الحديث قد جمع بين نوعين من اللحوم، وكلاهما قد مسته النار، فعلق الوضوء من لحوم الغنم بالمشيئة، وأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يعلقه على المشيئة، والله أعلم.
الدليل الثاني على ترك الوضوء من لحوم الإبل:
(1092-321) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل[10].
(1095-324) روى البيهقي من طريق إسرائيل، عن عبدالأعلى، عن أبي عبدالرحمن، عن علي أنه طَعِمَ خبزًا ولحمًا، فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: إن الوضوء مما خرج، وليس مما دخل[16].
قال البيهقي: وروينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس: الوضوء مما خرج، وليس مما دخل، وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مست النار[18].
قلت: والوضوء من لحوم الإبل ليست علةُ الوضوء منه كونَه مما مسته النار؛ وإنما كونه من لحوم الإبل؛ ولذا يتوضأ منه سواء مسته النار أم لا، ولو كان الوضوء منه لكونه قد مس بالنار، لم يكن هناك فرق بين لحم الغنم ولحم الإبل، وقد فرق بينهما الحديث كما سيأتي من حديث جابر والبراء - رضي الله عنهما.
الدليل السادس:
(1096-325) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عائذ بن حبيب، عن يحيى بن قيس، قال:
رأيت ابن عمر أكل لحم جزور، وشرب لبن الإبل، وصلى ولم يتوضأ[19].
1099-328) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبدالله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: ((إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ))، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: ((نعم، فتوضأ من لحوم الإبل))، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: ((نعم))، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: ((لا))[25].
الدليل الثاني:
(1100-329) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبدالله بن عبدالله، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: ((توضؤوا منها))، قال: وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: ((لا تصلوا فيها؛ فإنها من الشياطين))، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: ((صلوا فيها؛ فإنها بركة))[26].
(1101-330) ما رواه ابن ماجه من طريق بقية، عن خالد بن يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، عن عطاء بن السائب، قال: سمعت محارب بن دثار يقول:
سمعت عبدالله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((توضؤوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم، وتوضؤوا من ألبان الإبل، ولا توضؤوا من ألبان الغنم، وصلوا في مراح الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل))[28].
(1102-331) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مولى لموسى بن طلحة - أو عن ابن لموسى بن طلحة - عن أبيه،
عن جده قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا يصلي في أعطانها، ولا يتوضأ من لحوم الغنم وألبانها ويصلي في مرابضها[30].
(1103-332) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق سليمان بن داود الشاذكواني، ثنا إسماعيل بن عبدالله بن موهب، عن عثمان بن عبدالله بن موهب، عن جابر بن سمرة، عن أبيه سمرة السوائي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنا أهل بادية وماشية، فهل نتوضأ من لحوم الإبل وألبانها؟ قال: ((نعم))، قال: فهل نتوضأ من لحوم الغنم وألبانها؟ قال: ((لا))[32].
ويكفي في الباب حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما.
وأجاب الجمهور عن هذه الأحاديث بأجوبة، منها:
أن المقصود بالوضوء ليس الوضوء الشرعي؛ وإنما المراد غسل الأيدي من لحوم الإبل.
ويجاب عن هذا:
أولاً: بأن الكلام إذا صدر من الشارع، فالأصل حمله على الحقيقة الشرعية، فإنْ تعذر ذلك، حُمل على الحقيقة اللغوية، ولا يوجد هنا سبب يحملنا على صرف الكلام عن حقيقته الشرعية إلى حقيقته اللغوية.
ثانيًا: أن السؤال عن الوضوء من لحومها قرن بالسؤال عن الصلاة في أعطانها، مما يدل على أن المراد بالوضوء الوضوء الشرعي المتعلق بالصلاة.
ثالثًا: لو كان المقصود بالوضوء هو غسل الأيدي، لكان غسل الأيدي من لحوم الغنم أولى من غسلها من لحوم الإبل؛ وذلك أن نسبة الدهون في لحوم الغنم أكثر منها في لحوم الإبل، وهذا أمر معروف عند كل من يتعاطى أكل لحوم الإبل.
رابعًا: أن غسل الأيدي ليس واجبًا لا في لحوم الإبل ولا في لحوم الغنم، فلماذا يترك الشارع غسل الأيدي من لحوم الغنم إلى مشيئة الفاعل، ولا يترك هذا الأمر في لحوم الإبل؟ مع أن غسل الأيدي من لحوم الإبل والغنم الحكم فيها سواء، إلا إن كنتم تذهبون إلى وجوب غسل الأيدي من لحوم الإبل، ولا قائل به.
الجواب الثاني للجمهور:
قالوا: إن هذه الأحاديث منسوخة بحديث (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار)، وقد أجبنا عن ذلك بأجوبة، منها:
أولاً: أن الحديث اختصره شعيب بن حمزة فأخطأ فيه.
ثانيًا: أنه لا يذهب إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا؛ لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين، بينما النسخ فيه إبطال لأحدهما.
ثالثًا: أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، وترك الوضوء مما مست النار عام، والخاص مقدم على العام.
قال ابن القيم: "ومن العجب معارضة هذه الأحاديث بحديث جابر: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار)، ولا تعارض بينهما أصلاً؛ فإن حديث جابر هذا إنما يدل على أن كونه ممسوسًا بالنار، ليس جهة من جهات نقض الوضوء، ومن نازعكم في هذا؟ نعم هذا يصلح أن يحتجوا به على من يوجب الوضوء مما مست النار، على صعوبة تقرير دلالته، وأما من يجعل كون اللحم لحم إبل هو الموجب للوضوء، سواء مسته النار أم لم تمسه، فيوجب الوضوء من نيئه ومطبوخه وقديده، فكيف يحتج عليه بهذا الحديث؟ وحتى لو كان لحم الإبل فردًا من أفراده، فإنما تكون دلالته بطريق العموم، فكيف يقدم على الخاص؟ هذا مع أن العموم لم يستفد ضمنًا من كلام صاحب الشرع، وإنما هو من قول الراوي.
وأيضًا فأبين من هذا كله أنه لم يحك لفظًا لا خاصًّا ولا عامًّا، وإنما حكى أمرين: هما فعلان: أحدهما متقدم، وهو فعل الوضوء، والآخر متأخر، وهو تركه الوضوء من ممسوس النار، فهاتان واقعتان، توضأ في إحداهما، وترك الوضوء في الأخرى من شيء معين مسته النار، لم يحك لفظًا عامًّا ولا خاصًّا ينسخ به اللفظ الصريح الصحيح... إلخ كلامه - رحمه الله تعالى[34].
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة الفريقين نجد أن القائل بوجوب الوضوء من لحوم الإبل أسعد بالدليل، وليس مع القائلين بعدم الوجوب إلا حديث جابر: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار).
ومع أن هذا الحديث معلول، فإن حديث جابر بن سمرة وحديث البراء بن عازب فرق بين نوعين من اللحوم، وكلاهما قد مسته النار.
فإما أن يكون الوضوء من لحوم الإبل متقدمًا على حديث ترك الوضوء مما مست النار أو متأخرًا عنه، فإن كان متأخرًا لم يصح نسخه بنص متقدم عليه؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرًا.
وإن فرضنا أن حديث الوضوء من لحوم الإبل كان متقدمًا، قبل أن ينسخ الوضوء مما مست النار، فكيف يترك الوضوء من لحوم الغنم لمشيئة الفاعل؟ فكان يجب أن يكون الأمر بالوضوء منهما جميعًا؛ لكون اللحمين قد مستهما النار، فلا بد من القول: إن حديث ترك الوضوء من لحوم الغنم دليل على أنه متأخر عن الأحاديث التي تأمر بالوضوء مما مست النار، وإلا لأوجب الوضوء من لحوم الغنم، فلما ترك الوضوء من لحوم الغنم مع كونه قد مسته النار، كان دليلاً على تأخر هذا الحديث عن أحاديث الوضوء مما مست النار، وتبين أن العلة في الأمر بالوضوء من لحوم الإبل ليست كونه قد مسته النار، وإنما العلة فيه كونه من الإبل، سواء كان قد مسته النار أو لم تمسه النار، فيجب الوضوء منه مطلقًا، سواء كان مطبوخًا أو نيئًا، والله أعلم. -----------------------
[1] انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/32)، وانظر في مذهب المالكية: المنتقى للباجي (1/65).
[2] قال النووي في المجموع (2/66): وفي لحم الجَزور - بفتح الجيم، وهو لحم الإبل - قولان؛ الجديدُ المشهورُ: لا ينتقض، وهو الصحيح عند الأصحاب، والقديمُ: أنه ينتقض، وهو ضعيف عند الأصحاب، ولكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه. اهـ
[6] الحديث مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر، وقد أعل هذا الحديث بعلتين: إحداهما في الإسناد، والثانية في المتن.
أما العلة في إسناده، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمع هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من ابن عقيل، وأكثر الأئمة على تضعيف ابن عقيل، (انظر كلام الأئمة في حفظ ابن عقيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، فأغنى عن إعادته هنا).
قال الشافعي - رحمه الله - كما في كتاب المعرفة للبيهقي (1/395): لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من عبدالله بن محمد بن عقيل. قال البيهقي: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل؛ وذاك لأن صاحبي الصحيح لم يخرجا هذا الحديث من جهة محمد بن المنكدر، عن جابر في الصحيح، مع كون إسناده على شرطهما؛ ولأن عبدالله بن عقيل قد رواه أيضًا عن جابر، ورواه عنه جماعة، ثم قال: إلا أنه قد روي عن حجاج بن محمد وعبدالرزاق ومحمد بن بكر، عن ابن جريج، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبدالله.. فذكروا هذا الحديث، فإن لم يكن ذكر السماع فيه وهمًا من ابن جريج، فالحديث صحيح على شرط صاحبي الصحيح. اهـ
قلت: ما ساقه البيهقي احتمالاً قد صرح به البخاري في التاريخ الصغير (2/250)، قال - رحمه الله -: وقال بعضهم: عن ابن المنكدر: سمعت جابرًا، ولا يصح. اهـ وهذا ذهاب من البخاري - رحمه الله - أن ذكر سماع ابن المنكدر عن جابر في هذا الحديث لا يصح، وأن الحديث ليس على شرط البخاري.
وقد أخرج أحمد (3/307) ثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابرًا، ظننته سمعه من ابن عقيل.
ولفظ ابن عقيل - على فرض تحسين حديثه - ليس فيه: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار؛ وإنما فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا، ثم توضأ، فصلى الظهر، ثم رجع إلى فضل طعامه، فأكل منه، ثم قام إلى صلاة العصر، ولم يتوضأ، وهذا اللفظ لا إشكال فيه، ولا حجة فيه على نسخ الوضوء من لحوم الإبل، بل ولا على نسخ الأمر بالوضوء مما مست النار، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى.
وأما العلة في المتن، فإن الحديث يرويه جماعة: منهم ابن جريج وابن عيينة ومعمر وأيوب وروح بن القاسم وغيرهم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل على امرأة من الأنصار، فقربت له لحمًا، فأكل، ثم حان وقت صلاة الظهر، فتوضأ وصلى، ثم رجع فقربت له فضل طعامه، فأكل، فحانت صلاة العصر، فصلى، ولم يتوضأ.
فأراد شعيب بن أبي حمزة أن يختصر الحديث والقصة، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فأوقع هذا الاختصار المخل في فهم غير مراد للحديث، وفهم الجمهور أن هذا الحديث بهذا اللفظ ناسخ لأحاديث الأمر بالوضوء مما مست النار، وكان شعيب - رحمه الله - يقصد من قوله: "في آخر الأمرين" المقصود بالأمر: الشأن والقصة، وليس الأمر الشرعي.
قال أبو داود عن رواية شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر: هذا اختصار من الحديث الأول؛ يعني: حديث ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بلفظ: قربت للنبي صلى الله عليه وسلم خبزًا ولحمًا، فأكل، ثم دعا بوضوء، فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ.
وقال ابن حبان في صحيحه: وهذا خبر مختصر من حديث طويل.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/64): سمعت أبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفًا، ولم يتوضأ، كذا رواه الثقات، عن ابن المنكدر، عن جابر، ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه، فوهم فيه. اهـ
وقال ابن القيم عن حديث جابر "كان آخر الأمرين..." في زاد المعاد (4/377): "ليس فيه حكاية لفظ عام عن صاحب الشرع، وإنما هو إخبار عن واقعة فعل في أمرين: أحدهما متقدم على الآخر، كما جاء ذلك مبينًا في نفس الحديث: أنهم قربوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لحمًا، فأكل، ثم حضرت الصلاة، فتوضأ، فصلى، ثم قربوا إليه، فأكل، ثم صلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار، هكذا جاء الحديث، فاختصره الراوي لمكان الاستدلال.
وقال ابن القيم أيضًا في تهذيب السنن (1/138): الحديث قد جاء مثبتًا من حديث جابر نفسه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى طعام، فأكل، ثم حضرت الظهر، فقام وتوضأ وصلى، ثم أكل، فحضرت صلاة العصر، فقام فصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، فالحديث له قصة، فبعض الرواة اقتصر على موضع الحجة، فحذف القصة، وبعضهم ذكرها، وجابر روى الحديث بقصته.
وقال ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (21/263): "ليس في حديث جابر ما يدل على ذلك - يعني ما يدل على الترك العام من الوضوء مما مست النار - بل المنقول عنه الترك في قضية معينة".
وهذا الاختصار من شعيب - رحمه الله - لم يكن اختصارًا موفَّقًا، حتى ولو حملناه على أن المقصود بالأمر الشأن والقصة؛ لسببين:
الأول: أنه يوهم أن الوضوء مما مست النار منسوخ، وليس كذلك؛ لأننا لا نستطيع أن نقطع أن الوضوء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الظهر كان بسبب أكل اللحم، فقد يكون محدثًا، ولم يكن عندنا دليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أكل من اللحم قبل صلاة الظهر كان على وضوء، ثم فعل الوضوء بسبب اللحم؛ بل إن ابن عقيل - رحمه الله - والحديث كما بينا إنما هو حديثه؛ سمعه منه ابن المنكدر، ولم يسمعه من جابر - قد روى الحديث عن جابر، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وضوءه الأول عن حدث، وليس بسبب أكل اللحم، وسوف نسوق لفظها - إن شاء الله تعالى - حين تخريج الحديث.
الثاني: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينسخ قوله، فالأمر بالوضوء مما مست النار ثبت في أحاديث قولية في الصحيحين وفي غيرهما، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا ثم صلى، ولم يتوضأ يجعل الأمر بالوضوء للاستحباب، وليس للوجوب، ولا يصح أن نقول: إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على النسخ، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء كان نهيه دليلاً على التحريم، فإذا ارتكب هذا النهي حملنا النهي على الكراهة، ولا نقول: إن ارتكابه لهذا النهي دليل على نسخ النهي، إلا أن يقوم دليل على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم خاص به فنبقي الأمر والنهي على ظاهرهما.
وقد ذهب ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن الوضوء مما مست النار ليس منسوخًا، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/263): لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عام ينسخ الوضوء من كل ما مسته النار، وإنما ثبت في الصحيح أنه أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ، وكذلك أتي بالسويق فأكل منه، ثم لم يتوضأ. وهذا فعل لا عموم له؛ فإن التوضؤ من لحوم الغنم لا يجب باتفاق الأئمة المتبوعين.
[ تخريج الحديث]:
الحديث - كما سبق - مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر، ويرويه جماعة عن محمد بن المنكدر:
الأول: شعيب بن أبي حمزة، عنه.
أخرجه أبو داود كما في إسناد الباب، والنسائي (185)، وفي الكبرى (188)، وابن الجارود في المنتقى (24)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/67) وابن خزيمة (1/28)، والطبراني في المعجم الصغير (2/3)، وابن حبان (1134)، والبيهقي في السنن (1/155) من طريق علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، بلفظ: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار.
قال ابن حبان: هذا خبر مختصر من حديث طويل، اختصره شعيب بن أبي حمزة متوهمًا لنسخ إيجاب الوضوء مما مست النار مطلقًا؛ وإنما هو نسخ لإيجاب الوضوء مما مست النار خلا لحم الجزور فقط.
الثاني: ابن جريج، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه عبدالرزاق (639) في المصنف، ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد في المسند (3/322)، وابن حبان (1130).
وأخرجه أحمد (3/322) عن محمد بن بكر.
وأبو داود (191) من طريق حجاج بن محمد.
والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/42) والبيهقي (1/156) من طريق ابن وهب، كلاهما عن ابن جريج به.
وذكروا من لفظه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرب له خبز ولحم، فأكل منه، ثم توضأ لصلاة الظهر، ثم رجع فأكل من فضل طعامه، ثم صلى العصر ولم يتوضأ. وبعضهم يزيد على بعض.
الطريق الثالث: سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه أحمد (3/307) حدثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته يقول: أخبرني من سمع جابرًا، فظننته سمعه من ابن عقيل. ابن المنكدر وعبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا، ثم صلى ولم يتوضأ، وأن أبا بكر أكل لبأ ثم صلى ولم يتوضأ، وأن عمر أكل لحمًا ثم صلى ولم يتوضأ.
وأخرجه ابن ماجه (489) من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر وعمرو بن دينار وعبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر بنحوه.
وأخرجه الحميدي في مسنده (1266) والترمذي في السنن (80) عن سفيان بن عيينة، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن المنكدر به، بذكر قصة في الحديث.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2017) من طريق سفيان عن عبدالله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن المنكدر به، مختصرًا.
كما أخرجه البيهقي (1/154) من طريق سفيان عن ابن المنكدر وحده، بلفظ مختصر أيضًا.
وسيأتي - إن شاء الله - مزيد تخريج لطريق ابن عقيل وحده عن جابر في نهاية البحث.
الطريق الرابع: معمر، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه عبدالرزاق (639،640) وابن حبان (1132) عن معمر به.
الطريق الخامس: أيوب عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1137) من طريق محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، قال: حدثنا أيوب به.
الطريق السادس: جرير بن حازم، عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1138) من طريق وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به.
الطريق السابع: أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/65) وابن حبان (1139) من طريق روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر به.
الطريق الثامن: أخرجه ابن حبان (1135) من طريق محمد بن عبدالله بن أبي فروة، قال: حدثني محمد بن المنكدر به.
الطريق التاسع: رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4974) من طريق يونس بن عبيد، عن محمد بن المنكدر به.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يونس إلا زهير بن إسحاق، تفرد به بشر بن معاذ.
الطريق العاشر، رواه الحارث في مسنده كما في زوائد مسند الحارث (1/99) من طريق عبدالوارث، عن محمد بن المنكدر.
هذا ما وقفت عليه من طرق إلى محمد بن المنكدر، ولم يتفق أحد من الرواة ممن روى هذا الحديث مع ما ذكره شعيب بن أبي حمزة من اختصاره لهذا الحديث بقوله: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فكان هذا اختصارًا منه - رحمه الله - للقصة التي حكاها بعض الرواة؛ من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا، ثم حان وقت الظهر، فتوضأ فصلى، ثم عاد فأكل بقية الطعام، ثم صلى العصر ولم يتوضأ. فهل في هذه القصة ما يدل على ترك الوضوء مما مست النار بالكلية، حتى يقال: إن الحكم الشرعي بالوضوء مما مست النار قد نسخ، وأصبح غير مشروع؟ أو يقال: إن هذا الفعل دليل على أن الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، وإنما هو للاستحباب، الثاني هو المتعين، والله أعلم.
انظر إتحاف المهرة (3688، 3702)، تحفة الأشراف (3047).
وكنا قد ذكرنا في بداية البحث أن حديث محمد بن المنكدر، إنما سمعه من ابن عقيل، عن جابر، ووعدنا أن نخرج طريق عبدالله بن عقيل في نهاية البحث، فهذا أوان تخريجنا لطريق عبدالله بن عقيل - رحمه الله -:
الحديث أخرجه أحمد في المسند (3/374) من طريق ابن إسحاق، حدثني عبدالله بن محمد بن عقيل، قال:
دخلت على جابر بن عبدالله الأنصاري ومعي محمد بن عمرو بن حسن بن علي وأبو الأسباط مولى لعبدالله بن جعفر، كان يتتبع العلم، قال: فسألناه عن الوضوء مما مست النار من الطعام، فقال: وذكر قصة في الحديث، وفيها: وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صور من نخل قد رش له فهو فيه، قال: فأتي بغداء من خبز ولحم قد صنع له، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل القوم معه، قال: ثم بال، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للظهر، وتوضأ القوم معه، قال: ثم صلى بهم الظهر، قال: ثم قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ما بقي من قسمته لهن حتى حضرت الصلاة، وفرغ من أمره منهن، قال: فردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل غذائه من الخبز واللحم، فأكل وأكل القوم معه، قال: ثم نهض فصلى بنا العصر، وما مس ماء ولا أحدٌ من القوم.
فهذا الحديث هو حديث محمد بن المنكدر، وقد ذكر البخاري والشافعي وسفيان بن عيينة أن محمد بن المنكدر سمعه من ابن عقيل، فلا يقال: إن هذا قد انفرد به ابن عقيل بذكر البول قبل صلاة الظهر؛ لأن حديث ابن المنكدر إنما سمعه منه، وهو نص على أن الوضوء قبل صلاة الظهر لم يكن سببه أكل اللحم؛ وإنما سببه الحدث، حتى ولو لم ينص ابن عقيل على هذا، فليس عندنا نص على أن الوضوء الأول كان بسبب أكل اللحم، وليس عندنا ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على طهارة حين أكل اللحم قبل صلاة الظهر، والأصل عدم الطهارة، وأن الوضوء قبل صلاة الظهر كان بسبب الحدث لا غير.
[11] ورواه عبدالرزاق في المصنف (653) عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعت ابن عباس يقول: إنما النار بركة الله، وما تحل من شيء ولا تحرِّمه، ولا وضوء مما مست النار، ولا وضوء مما دخل؛ إنما الوضوء مما خرج من الإنسان. وسنده صحيح.
وأخرجه البيهقي (1/158) من طريق عبدالوهاب، أنا ابن جريج به.
أخرجه البيهقي أيضًا (1/116) من طريق أبي ظبيان، عن ابن عباس بنحوه.
وأخرجه البيهقي في السنن (1/116) من طريق الفضل بن المختار، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس. وإسناده ضعيف.
فيه الفضل بن مختار، قال العقيلي: منكر الحديث. الضعفاء الكبير (3/449).
وقال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وأحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل. الجرح والتعديل (7/69).
وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، عامتها لا يتابع عليها.
وفيه شعبة مولى ابن عباس، جاء في ترجمته:
قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/303).
وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279)، تهذيب الكمال (12/497).
وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/303).
وقال أحمد: ما أرى به بأسًا. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/303).
وقال أحمد: ما أرى به بأسًا. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس.
وقال في رواية ابن أبي خيثمة: لا يكتب حديثه. تهذيب التهذيب (4/303).
وقال ابن عدي: ولم أرَ له حديثًا منكرًا جدًّا؛ فأحكم له بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به. الكامل (4/23).
وفي التقريب: صدوق سيئ الحفظ. قال مالك: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (4/303).
وقال النسائي: ليس بقوي. الكاشف (2279)، تهذيب الكمال (12/497).
وقال مثله الجوزجاني. تهذيب التهذيب (4/303).
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس.
ولا حاجة إلى هذا الإسناد، وقد ثبت الأثر بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما.
[13] واختلف على يحيى بن وثاب، فرواه عنه أبو إسحاق كما تقدم من مسند ابن عمر، ورواه عبدالرزاق في مصنفه (100) عن الثوري، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عباس، فجعله من مسند ابن عباس.
ورواه ابن أبي شيبة (1/52) حدثنا هشيم، عن أبي حصين به.
ويحيى بن وثاب قد روى عن ابن عباس وابن عمر، وقد ثبت الأثر عن ابن عباس من طرق كثيرة، كما قدمنا، فإن كان الطريقان محفوظين، وإلا فطريق أبي حصين أرجح من وجهين:
الأول: أن الأثر عن ابن عباس لم يكن فردًا كما هو الحال في أثر ابن عمر.
الثاني: أن الإمام أحمد سئل عن أبي حصين، فقال: كان صحيح الحديث. قيل له: أيما أصح حديثًا هو أو أبو إسحاق؟ قال: أبو حصين أصح حديثًا بقلة حديثه. تهذيب التهذيب (7/116)، والله أعلم.
[14] المصنف (658)، ومن طريق عبدالرزاق أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/251) رقم: 9237.
[15] إبراهيم النخعي لم يسمع من ابن مسعود، وباقي رجاله ثقات، والله أعلم.
[17] في إسناده عبدالأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف، انظر ترجمته في الجرح والتعديل (6/25)، التاريخ الكبير (6/71)، الضعفاء الكبير للعقيلي (3/57)، الكامل (5/316)، المجروحين لابن حبان (2/155).
[20] في إسناده يحيى بن قيس الطائفي، ذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئًا. انظر التاريخ الكبير (8/298)، والجرح والتعديل (9/181)، وقد ذكر ابن أبي حاتم بأنه روى عنه عائذ بن حبيب، ولم أقف على راوٍ آخر روى عنه، وقد ذكره ابن أبي حاتم في الثقات (5/529) الترجمة: 6075. ولم يوثقه غيره.
وقال البيهقي (1/158): ذهب علي بن المديني إلى أن جعفر بن أبي ثور هذا مجهول.
وقال الحافظ في التقريب عن جعفر بن أبي ثور: مقبول؛ يعني: إن توبع، وإلا فلين الحديث، ونعلم أن جعفر بن أبي ثور لم يتابع في هذا الحديث في هذا الإسناد.
وقد روى عن أبي ثور جماعة، ووثقه ابن حبان.
وقول الحافظ في التقريب مقبول ليس بالدقيق، خاصة وأنه قد صحح حديثه جماعة من أهل الحديث، كالإمام أحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وابن منده وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وسوف نوثق النقول عن بعضهم من خلال تخريج الحديث - إن شاء الله تعالى.
والحافظ ابن حجر ليس له منهج مطرد في الحكم على الراوي بأنه مقبول، ومع أن له اصطلاحًا خاصًّا في كلمة (مقبول)، وهي لا تعني التوثيق إلا بشرط المتابعة، وإلا فلين الحديث، ومع ذلك ومن خلال تتبعي لأحكام الحافظ ابن حجر في هذا المصطلح لم أخرج بمعرفة منهجه، وهو بَشَرٌ؛ فقد يسلم له في رجال كثيرين، ولا يسلم له القول في رجال آخرين، ومنهم جعفر بن أبي ثور، فخذ مثلاً الراوي: عبدالرحمن بن رزين، روى عنه اثنان كما في تهذيب الكمال للمزي، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة سوى أبي داود وابن ماجه، ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان، وقد قال الدارقطني في السنن (1/198): مجهول، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء، ومع ذلك قال فيه الحافظ: صدوق، بينما يحكم أحيانًا على رجال خرج لهم أحد الشيخين، ولم يوثقهم أحد إلا ابن حبان، يحكم عليهم بقوله: مقبول، يعني: إن توبع كما سبق وإلا فلين الحديث، فهذا إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبدالله المخزومي أخرج له البخاري، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وقال فيه: مقبول.
وعبدالرحمن بن مسور بن مخرمة أخرج له مسلم، ولم يوثقه أحد إلا ابن حبان، وقال فيه: مقبول، وهذه أمثلة تدل على غيرها، وإن كان الحافظ ممن أعطي إنصافًا واعتدالاً وسبرًا، إلا أن الكمال لله سبحانه وتعالى، فالحق أن جعفر بن أبي ثور ثقة، وليس حقه أن يقال فيه: صدوق، فضلاً أن يقال فيه: مقبول، وأما قول علي بن المديني: مجهول، فهو معارض بتصحيح أئمة الجرح والتعديل حديثه هذا، ومداره عليه، وهم أكثر عددًا، وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه - عليهم رحمة الله.
قال عبدالله بن أحمد: سألت أبي عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: حديث البراء وحديث جابر بن سمرة جميعًا صحيح - إن شاء الله تعالى. انظر مسائل الإمام أحمد رواية عبدالله (1/65)، ومسائل ابن هانئ (1/9).
وقال البيهقي في السنن (1/159): بلغني عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه الحنظلي أنهما قالا: قد صح في هذا الباب حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة. اهـ
وقال ابن خزيمة: لم نرَ خلافًا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر أيضًا صحيح من جهة النقل؛ لعدالة ناقليه. اهـ
وهذا نقل من ابن خزيمة ليس بتصحيح الحديث من قبله؛ وإنما نسبة التصحيح لأهل الحديث قاطبة.
والله أعلم.
تخريج الحديث:
الحديث مداره على جعفر بن أبي ثور، ويرويه عنه جماعة كالتالي:
الأول: أشعث بن أبي الشعثاء، عن جعفر بن أبي ثور به:
أخرجه أحمد (5/96، 97) ومسلم (360) والطبراني (1864، 1867) من طريق شيبان.
وأخرجه ابن ماجه (495)، وابن حبان (1157) من طريق زائدة بن قدامة، كلاهما عن أشعث به.
الثاني: سماك بن حرب، عن جعفر بن أبي ثور به:
أخرجه أحمد (5/86) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70) من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري عن سماك به.
وأخرجه أحمد (5/86) حدثنا عبدالله بن الوليد.
وابن الجارود في المنتقى (25) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي، كلاهما عن سفيان الثوري به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1456)، والطبراني في الكبير (1861) من طريق زكريا بن أبي زائدة.
وأخرجه الطبراني (1862) من طريق الحسن بن صالح.
وأخرجه أحمد (5/92) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1455)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70) والطبراني في الكبير (1860) من طريق حماد بن سلمة.
وأخرجه الطيالسي (766)، وأحمد (5/93)، والطبراني (1863) وابن حبان (1126) من طريق شعبة.
وأخرجه أحمد (5/100) ومسلم (360)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70)، والطبراني (1859) من طريق زائدة بن قدامة - كلهم (زكريا بن أبي زائدة، والحسن بن صالح، وحماد بن سلمة، وشعبة، وزائدة بن قدامة) رووه عن سماك به.
الطريق الثالث: عثمان بن عبدالله بن موهب، عن جعفر بن أبي ثور به:
أخرجه أحمد (5/89)، ومسلم (360)، وابن خزيمة (93) (7/270، 396)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/70)، والطبراني (1866)، وابن حبان (1124)، والبيهقي (1/158) من طريق أبي عوانة، عن عثمان بن موهب به.
وأخرجه مسلم (360)، والطبراني (1867) من طريق شيبان، عن عثمان بن عبدالله به.
الطريق الرابع: محمد بن قيس الأسدي، عن جعفر بن أبي ثور.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/385) والطبراني (1868) من طريق محمد بن قيس الأسدي، عن جعفر بن أبي ثور به.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/677)، تحفة الأشراف (2131) إتحاف المهرة (2544).
فقيل: عن الأعمش، عن عبدالله بن عبدالله الرازي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب.
وقيل: عن عبيدة الضبي، عن عبدالله الرازي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة الجهني.
وقيل: عن حجاج بن أرطاة، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أسيد بن حضير.
وقيل: عن جابر الجعفي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن سليك الغطفاني.
وقد رجح جمع من أئمة الحديث أن الحديث صحيح من مسند البراء بن عازب، منهم أحمد وإسحاق بن راهويه، وسبق أن نقلنا كلامهما سابقًا في الحديث السابق.
وكذلك نقل الترمذي هذا الاختلاف وصحح الحديث من مسند البراء.
قال الترمذي في السنن (1/87): وقد روى الحجاج بن أرطاة هذا الحديث عن عبدالله بن عبدالله، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، وهو قول أحمد وإسحاق، وروى عبيدة الضبي عن عبدالله بن عبدالله الرازي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة الجهني.
وروى حماد بن سلمة هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة، فأخطأ فيه، وقال فيه: عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه عن أسيد بن حضير، والصحيح عن عبدالله بن عبدالله الرازي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال إسحاق: صح في هذا الباب حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة. اهـ وانظر العلل الكبير للترمذي (1/152).
وقال أبو حاتم الرازي كما في العلل لابنه (38)، وقد سأله ابنه عن الصحيح من هذا الخلاف، فقال: الصحيح ما رواه الأعمش، عن عبدالله بن عبدالله الرازي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأعمش أحفظ. اهـ
وكذلك رجح ابن خزيمة في صحيحه (1/22)، والبيهقي في سننه (1/159).
[ تخريج الحديث ]:
الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، وابن أبي شيبة (1/50) رقم 511، وأبو داود (184، 493)، والترمذي (81)، وأبو يعلى (1709)، من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش به.
وأخرجه الطيالسي (734،735) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/159) عن شعبة.
وأخرجه أحمد (4/303) وابن المنذر في الأوسط (1/138)، وابن حبان (1128) من طريق الثوري.
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى (26) وابن خزيمة (1/21) رقم 32 من طريق محاضر الهمداني.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/50) رقم 511، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/384) عن عبدالله بن إدريس، كلهم عن الأعمش به.
وأخرجه عبدالرزاق في المصنف (1597) عن معمر، عن الأعمش، عن رجل، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى به. وهذا الرجل المبهم في هذا الإسناد هو عبدالله بن عبدالله كما في الطرق السابقة.
وأخرجه أحمد (4/352) عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أسيد بن حضير.
ورواه الحارث في مسنده كما في زوائد الهيثمي (98) عن داود بن المحبر، عن حماد به.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/206) رقم 558 من طريق هدبة بن خالد، عن حماد به.
وقد جعل الترمذي - رحمه الله - الحمل على حماد بن سلمة، فجعل الخطأ منه، كما في سننه (1/87)، والذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن الخطأ من حجاج بن أرطاة، وليس من حماد؛ أولاً أن حماد بن سلمة أوثق من حجاج، والراوي عنه عفان، وهو من أثبت أصحابه، والأئمة يجعلون الحمل غالبًا على الضعيف إلا إذا وجدت قرينة تدل على أن الخطأ من الثقة.
ثانيًا: أن حمادًا قد توبع فيه، فقد أخرجه أحمد (4/352، 391)، وابن ماجه (496) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/383) من طريق عباد بن العوام، أنا الحجاج، ثنا عبدالله بن عبدالله مولى بني هاشم، وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير، إلا أنه اقتصر على النهي عن الصلاة في أعطان الإبل، والإذن بالصلاة في مرابض الغنم.
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (7407) من طريق عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا عمران القطان، عن الحجاج بن أرطاة، عن عبدالله بن عبدالله قاضي الري، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير.
فتبين أن الخطأ من حجاج، والله أعلم.
ورواه عبدالله بن أحمد في زوائد المسند (5/112) وابن أبي عاصم كما في الآحاد والمثاني (2667) من طريق عبيدة الضبي، عن عبدالله بن عبدالله، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ذي الغرة.
وقد قدمنا أن أبا حاتم في العلل قد صرح بأن هذا الإسناد خطأ، كما نقلنا عن بعض الأئمة أن الصحيح في هذا الحديث حديث الأعمش، وأن الحديث من مسند البراء بن عازب، وكل من خالف ذلك، فقد أخطأ، والله أعلم.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (6713) من طريق أبي حمزة السكري، عن جابر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن سليك الغطفاني.
وفي إسناده جابر الجعفي كذبه بعضهم.
انظر لمراجعة بعض طرق الحديث: أطراف المسند (1/582)، تحفة الأشراف (1783)، إتحاف المهرة (2098).
[29] في إسناده عطاء بن السائب، وقد تغير بآخرة، والراوي عنه خالد بن يزيد، قال: ابن عبدالهادي في التنقيح (1/176): وهو غير مشهور.
وقد اختلف فيه على عطاء بن السائب، فرواه بقية، عن خالد بن يزيد عن عطاء بن السائب مرفوعًا، كما في إسناد الباب.
ورواه ابن إسحاق كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في العلل (48)، قال: حدثني عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر موقوفًا، قال ابن أبي حاتم في العلل (48): حديث ابن إسحاق أشبه موقوفًا. اهـ
وقال ابن عبدالهادي في التنقيح (1/176): وقد روي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر، وهو أشبه.
[33] الإسناد فيه سليمان بن داود الشاذكواني، وهو متروك، والمعروف أن الحديث من مسند جابر بن سمرة، وليس من مسند أبيه، وقد سبق تخريج حديث جابر بن سمرة، والله أعلم.