الشيخ سيد Ù…Ø¨Ø§Ø صاحب الموقع
عدد الرسائل : 2210 العمر : 63 العمل/الترفيه : كاتب اسلامى تاريخ التسجيل : 07/12/2008
| موضوع: الخوارج /أ. د. مصطفى حلمي 2 مايو 30th 2012, 8:02 pm | |
| والرد عليهم في هذه المسألة يتناول باختصار:
أولًا: أن الله تعالى قد جعل في كثير من الدين الحكم إلى الأفراد لتطبيق ما جاء بالقرآن الكريم كما تبين آنفًا.
ثانيًا: أن ولاية عثمان وعلي للمسلمين حق، وهما في الأصل كذلك بإجماع لا اختلاف فيه فإذا تجاهل الخوارج هذه الحقيقة فقد تجاهلوا الإجماع وردوه، لأن هذا الإجماع على إيمانهما وولايتهما قد ثبت لهم من قبل ولا يزيل إيمانهما وولايتهما إلا إجماع آخر يثبت العكس، وينفي عنهما ما انعقد عليه الإجماع الأول.
ثالثًا: أما إذا ادعى الخوارج أن عثمان وعلي كانا حقًا مؤمنين وليين للمؤمنين بالإجماع ثم كفرا فالقول مردود بما أصبح عليه حال الخوارج أنفسهم، لأنه ينطبق عليهم ما روى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجماع الأمة أنهم مارقة.
ولأن نص الحديث المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريح في مروقهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وواقع أحوالهم فيما بعد تحققت بما جاء بهذا الحديث.
فقد أهرقوا دماء المسلمين وكفروا السلف والخلف واستحلوا ما حرمه الله عليهم، كل هذه الأفعال تشهد عليهم بأهم خرجوا من الدين[38].
هذا فيما يتعلق بمعتقدات الخوارج في تكفيرهم الخليفتين الثالث والرابع، أما عن تفسيرهم للآيات القرآنية التي يتسلحون بها في تكفير من يرتكب الكبائر فإنهم يقيسون على قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [المائدة: 5]. وقوله عز وجل:﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، وقال:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾ [التغابن: 2].
وبهذا فلم يجعل الله منزلة ثالثة تقع وسطًا بين الكفر والإيمان، (ومن كفر وحبط عمله فهو مشرك والإيمان رأس الأعمال، وأول الفرائض في عمل ومن ترك ما أمره الله به فقد حبط عمله وإيمانه، ومن حبط عمله فهو بلا إيمان والذي لا إيمان له مشرك كافر)[39].
والرد الذي يدفع به الملطى هذه التفسيرات يميل به إلى رأي المعتزلة، فهو يعتبر الخوارج قد أخطأوا القياس في هذه المسألة لأن الله تعالى بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4]، فوضع الفاسق في منزلة بين الإيمان والكفر فلم يقرن - عز وجل - الفسق بالكفر بل نص على فسقهم فحسب. كما لم يقل أنهم بالرغم من فسقهم مؤمنون كما رأت المرجئة.
ومن أخطاء الخوارج أيضًا عدم التفرقة بين الكبائر والصغائر من الأفعال بينما فرق الله تعالى بقوله: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31]، فالخوارج إذًا إن (حاولوا حجة في تكفير الأمة لم يجدوا، وإن جعلوا الذنوب كلها كبائر لم يجدوا إلى الحجة سبيلًا من عقل ولا سمع)[40].
وقد دأب أهل السنة والجماعة على تفنيد هذه التفسيرات التي يعتمد عليها الخوارج في عرض أرائهم، ولهذا فقد ذكر لنا إمام من أئمتهم وهو الإمام أبو المعين النسفي (متوفى 508هـ- 1114م) حججًا أخرى يدفع بها أقوالهم.
ويورد أولًا أقوالهم من نصوص الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ﴾ [النساء: 14]، وخلود العاصي في النار يرجع إلى خروجه عن الإيمان. أو نص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن)، أو قوله- صلى الله عليه وسلم -: (الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين).
وحجج النسفي في الرد يستمدها من نص الآية الكريمة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8] فالتو بة النصوح لا تكون إلا من الكبيرة.
كما يستمد حججًا أخرى من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كقوله: (صلوا خلف كل بر وفاجر)، فلو خرج المؤمن من الإيمان لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة خلفه. أما تفسير الحديث (لا يزني الزاني إلخ...) فإنه: (إخراج للكلام مخرج العادة لأن الظاهر والغالب في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم الزنا).
ومعنى الحديث الثاني الذي يستند إليه الخوارج (الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين). ترك الصلاة عن اعتقاد فقط لأنه فعلًا يصير بذلك كافرًا[41].
أما ابن حزم في رده على إنكار الخوارج للتحكيم فإنه يذكر أن عليًا لم يحكم قط رجلًا في دين الله وحاشاه من ذلك وإنما هو قد حكم كلام الله - عز وجل - بعد أن اتفق الفريقان على الدعوة إلى حكم القرآن الكريم. وقد قال تعالى: ﴿ إِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59].
ولما كان من المستحيل أن يتناظر الفريقان بكامل أفرادهما فقد تم اختيار الحكمين كل منهما عن الفريق الذي يمثله مدليًا بحجج المعسكر الذي ينوب عنه أبو موسى الأشعري عن أهل العراق وعمرو بن العاص عن أهل الشام. فلم يخطئ علي إذًا في قبوله التحكيم للرجوع إلى ما أوجبه القرآن.
فإنكار الخوارج للتحكيم، تكفيرهم علي، نتيجة لهذا يرجع إلى أنهم كانوا أعرابًا قرءوا القرآن حقًا، لكنهم لم يتفقهوا في السنن الثابتة عن الرسول - صلوات الله عليه، ولم يكن منهم أحد من الفقهاء المعروفين في ذلك الوقت لتبصيرهم بما خفي عنهم من دقائق الفقه أمثال أصحاب ابن مسعود أو عمر وعلي وعائشة، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وسلمان وزيد، وابن عباس، وابن عمر. فلا غرو أن (يكفر بعضهم بعضًا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم)[42].
ومما يكشف عن جهلهم أيضًا أنهم كانوا قريبي العهد ببيعة السقيفة حيث بايع الأنصار أبا بكر، وإذعانهم بذلك مع باقي المهاجرين لإمرة قريش، وقد نقل إليهم خبر اجتماع السقيفة من نقل إليهم القرآن والسنة النبوية أي أصحاب ثقات فكيف ينكرون على علي إمرة المسلمين، قد قرأوا أيضًا قول الله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[الحديد: 10]، وقوله تعالى:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ﴾ [الفتح: 29]، ولكن الجهل أعمى بصائرهم وأضلهم الشيطان فحلوا بيعة علي وأعرضوا عن هؤلاء الصحابة الكبار الذين قصدهم الله بهذه الآيات أمثال سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل كما تركوا أيضًا الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح.
إنهم تركوا هؤلاء جميعًا الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، كما وصفهم بأنهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد، والمثنى عليهم في التوراة والإنجيل، والذي شهد الله تعالى عليهم بأن باطنهم في الخير كظاهرهم بنص هذه الآية. إنهم تركوا هؤلاء جميعًا ليبايعوا عبدالله بن وهب الراسي الذي لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط.
وعلي قد بويع بواسطة المسلمين على أثر مقتل عثمان، وحتى إذا كان الذي بايعه واحد من المسلمين فصاعدًا فإنه يصبح بذلك إمامًا يجب طاعته فإنه (الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى)[43].
ويضيف ابن حزم إلى هذا كله في كتاب (المفاضلة بين الصحابة) أن من حكم الله تعالى أن يجعل الحكم لغيره. وصح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا حاصرت أهل حصن فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك)، وصح قوله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)[44].
معاملة الخوارج:
كان انشقاق الخوارج باعثًا لعلماء الفقه أن يعالجوا موضوع الخروج على الجماعة وأصبح يطلق على الطوائف التي تنشق من المجتمعات الإسلامية بأهل البغي مقابل أهل العدل، ووضعت شروط لكي تطلق عليهم هذه التسمية منها مخالفتهم لرأي الجماعة والانسلاخ عنها عن طريق الانفراد بمذهب يبتدعونه، فإذا لم يخرجوا بهذا المذهب عن طاعة الإمام وظلوا أفرادًا متفرقين فلا يحاربوا لأن الإمام سيتمكن بحالتهم هذه من تأديبهم وعقابهم.
ومنشأ هذه القاعدة ما كان بين علي والخارجين عليه، إذ أوضح لهم حقوقهم بألا يمنعهم عن مساجد الله ليذكروا فيها اسم الله، ولا يبدؤهم بقتال ولا يمنعهم الفيء ما دامت أيديهم معه[45].
فإن جاهروا وتظاهروا بمعتقداتهم مع اختلاطهم بباقي أهل العدل دون أن ينفصلوا في كيان خاص، فعلى الإمام أن يوضح لهم فساد ما اعتقدوا ليعودوا إلى موافقة الجماعة، ويجوز للإمام أن يؤدب من تظاهر بالفساد منهم للزجر والتخويف عن طريق التعزير دون إقامة الحد أو القتل، عملًا بقول رسول الله - صلوات الله عليه - (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس).
ولا يحاربوا أيضًا إذا اعتزلوا وحدهم وابتعدوا عن مخالطة الجماعة ما داموا لم يمتنعوا عن تأدية الحقوق، وظلت طاعتهم للإمام قائمة. فإذا عصوا الإمام ومنعوا ما عليهم من حقوق وانفردوا باجتباء الأموال وتنفيذ الأحكام أصبحت هذه الأموال مغتصبة والأحكام باطلة لأنهم لم ينصبوا لهم إمامًا.
أما إذا نصبوا لأنفسهم إمامًا لكي يتم تحصيل الأموال وتنفيذ الأحكام بأمره فيطالبوا برد هذه الأموال وتظل الأحكام نافذة.
ولكن حربهم في كلا الحالتين واجبة، أي سواء نصبوا لأنفسهم إمامًا أم لم يفعلوا بغرض إرجاعهم إلى الطاعة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]. وتفسير هذه الآيات على النحو التالي:
لمعنى الآية: ﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى) ﴾ وجهان: أحدهما: بغت بالتعدي بالقتال، والثاني: بغت بالعدول عن الصلح.
ومعنة قوله تعالى:﴿ حتى تفىء إلى أمر الله ﴾ فسره سعيد بن جبير بأن ترجع إلى الصلح الذي أمر الله تعالى به، وقال قتادة بن دعامة السدوسي بأنه بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله فيما لهم وعليهم.
وكذلك الآية: ﴿ فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ فالعدل يعني إما الحق أو كتاب الله.
وعلى الأمير الذي قلده الإمام لقتالهم أن ينذرهم ويعذرهم أولًا ثم يقاتلهم إذا أصروا على القتال بعد إمهالهم دون الهجوم عليهم بغتة[46].
وتختلف الطرق المتبعة في قتالهم عن قتال المشركين والمرتدين من ثمانية أوجه:
الأول: القصد من القتال ردهم بادئ الأمر ولا يتعمد قتلهم خلافًا لقتال المشركين والمرتدين الذين يتعمد قتلهم.
الثاني: يقاتلوا مقبلين ويكف عنهم مدبرين أما المشركين والمرتدين فيجوز قتالهم مقبلين ومدبرين.
الثالث: لا يجهز على جريحهم، كما أمر علي يوم الجمل ألا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح، وإن جاز الإجهاز على جرحى المشركين والمرتدين.
الرابع: ولا يقتل الأسرى أيضًا بل يفرج عمن أمن عودته للقتال ويحبس من لم يؤتمن رجوعه للقتال حتى تنتهى الحرب ثم يطلق سراحه، ولا يجوز حبسه بعدها.
الخامس: لا يغنم أموالهم ولا تسبى أولادهم عملًا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت دار الشرك ما فيها).
السادس: لا يستعان على قتالهم بذمي أومشرك معاهد وإن جاز هذا في قتال أهل الحرب والردة.
السابع: لا يجوز مهادنتهم إلى مدة أو موادعتهم على مال.
الثامن: لا تحرق مساكنهم ولا تقطع أشجارهم ونخيلهم لأنها دار إسلام، أما إذا هاجموا أهل العدل فإنه بجوز لأهل العدل في هذه الحالة الدفاع عن أنفسهم ما استطاعوا ولو بالقتل إذا لم يندفعوا بغيره.
ولكنه لا يجوز الاستمتاع بدوابهم أو استعمال سلاحهم في قتالهم.
وهذا الرأي يخالف ما ذهب إليه أبو حنيفة الذي أجاز الاستعانة على قتالهم بسلاحهم والاستمتاع بدوابهم ما دامت الحرب قائمة كما منع الصلاة على موتاهم على سبيل العقوبة لهم.
ويعارضه الماوردي فيما يتعلق بالنقطة الأولى استنادًا على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه). كما يرى الماوردي أيضًا أنه لا عقوبة على الميت في الدنيا ولهذا يجب الصلاة عليهم لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (فرض على أمتي غسل موتاهم والصلاة عليهم)[47].
نظرة المستشرقين للخوارج:
احتضن أغلب المستشرقين نظريات الخوارج ووضعوهم موضع التمجيد ورفعوا من شأنهم فأظهروا فيهم نواحي الاختلافات الجذرية بينهم وبين باقي الفرق على أنها سمة الامتياز والتفوق فإن فلهوزن يرى أن الخوارج قد انبثقوا عن طبقة القراء[48] الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب وجاهدوا للعمل يما حاء به لا الاقتصار على حفظه وترديده صلاة ودعاء في المساجد والبيوت لأن القرآن في نظرهم ليس موضوع دراسة نظرية وإنما أنزل من أجل العمل والتقوى. ولهذا لم ينقطعوا للتعبد فحسب محتفظين بتقواهم لأنفسهم (وإنما كانوا يعملون بإيمانهم عن طريق التوجيه وإسداء المشورة في الأمور العامة كما تقضي بذلك طبيعة الخلافة الإسلامية)[49].
فإن الخوارج في رأيه لم يكونوا قادة لحركات كبرى وإنما يعتبرهم مقاييس لدرجة حرارة الجماهير ومثيري حماستهم، وأنهم نادرًا ما كانوا يسبحون ضد التيار العام بل مقاييس لدرجة حرارة الجماهير. وينفى فلهوزن بشدة الرأي الذي تجدد القول به حديثًا والذي ينسب أصول الخوارج إلى السبئية لأن لقب السبئية لم يطلق إلا على غلاة الشيعة ولأن الخوارج أنفسهم كانوا ينعتون خصومهم بنعت (السبئية) للسب والتحقير. فالبحث عن منشأ الخوارج ينبغى أن يرد إلى موقعة صفين[50].
ويعتقد فلهوزن أن الخوارج تئم تأت في موضوع الخلافة بأمر غريب أو مستنكر لأنهم لم يكونوا فرقة ضئيلة العدد تعمل في الظلام وتتكون في شكل تنظيم سري بل كانت ظاهرة أمام الكافة وتستند في آرائها على الرأي العام الذي كانت له الغلبة في معسكر أهل العراق في موقعة صفين، وأن مبادئهم قد أغرت الكثيرين بالانضمام إليهم دون أن ينادوا هم بها. وعلى هذا فإن الخوارج إذًا (كانوا حزبًا ثوريًا صريحًا كما يدل على ذلك اسمهم، أجل كانوا حزبًا ثوريًا يعتصم بالتقوى، لم ينشأوا عن عصبية العروبة بل عن الإسلام)[51].
ويرتبط بمعنى التقوى عند الخوارج ما يفهمه فلهوزن عن التقوى في الإسلام التي يصفها بأنها (ذات اتجاه سياسي عام) وهى أعلى درجة عند الخوارج لأن مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كان يتحقق على يد الخوارج بمناسبة وبغير مناسبة، لأن لا سلطان على الناس إلا الله ولكي تصبح السلطة الزمنية شرعية فيجب أن تخضع خضوعًا مطلقًا للدين لأنها تحكم باسم الله، فالإمام ما هو إلا رمز معبر عن وحدة الأمة الإسلامية.
وفي تقسيم فلهوزن للحكومة الإسلامية إلى قطبين أحدهما سلبي لخضوعها المطلق للدين والآخر إيجابي وهو جماعة المسلمين، خلق تعارضًا بين (الدين) و(الجماعة) أي بين خضوع الإنسان لله ووجوب خضوعه لأمر الجماعة وطاعة الإمام، ويرى أن الخوارج يقفون في صف الدين بكل قوة[52].
وبالرغم من أن الخوارج يستحلون دماء خصومهم المسلمين ويعتبرون أن قتالهم جهادًا شأنه شأن الجهاد ضد الكفار وأن المسلمين المخالفين لهم من عامة أهل السنة والجماعة أشد كفرًا من النصارى واليهود والمجوس، ومع هذا كله فليست الخوارج في ظن فلهوزن من نوع الفوضويين فهو يدافع عنهم هاهنا بحرارة لأن حروبهم لعثمان وعلي ومعاوية لم تستهدف إلا استبدالهم بأئمة صالحين لأن صلاحية الأمور في الدنيا والآخرة من صلاحية الأئمة (فالإمام إمام في الدنيا والآخرة في الحياة وبعد الموت هذا هو المذهب السائد في الإسلام، وبقدر ما في مركز الإمام من خطورة تكون الصعوبة في اختيار من يصلح له في نظر الخوارج)[53].
أفا فان فلوتن فيطلق على الخوارج (اسم الجمهوريين) لأنهم في رأيه يمثلون المبادئ الديمقراطية المتطرفة[54].
ويبدو أنه ممن تأثر بتمجيد المستشرقين للخوارج الأستاذ عمر أبو النصر في كتابه (الخوارج في الإسلام) إلى حد استبعاده لحديث الإمامة في قريش لأن الخوارج في رأيه أقرب إلى مسايرة الدين، فلو كان هناك نص صريح لما أنكروه ولا خالفوه. ثم ينسب إليه فضل طرق الموضوع الجديد الذي لم يكن للمسلمين به شأن من قبل وهو أنه يستطاع عزل الخليفة أو قتله إذا خالف رأي الجماعة[55].
ويستبعد أن يكون للخوارج يد في مقتل عثمان وإنما يرجح أن من أصبحوا خوارج في عهد علي كانوا من الثائرين على عثمان قبله[56] كما يربط بين الخوارج وبين الثوار الغربيين فيقول: (كأن الثوار الغربيين أخذوا فكرتهم منهم)[57].
ولا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى جهد عبير لإظهار تهافت مثل هذه الآراء، إذ سبق أن أوضحنا رد الفرق على معتقدات الخوارج ولا نعود فنكررها. ولكن نكتفي في مجال الرد على إبراز الحقيقة الواضحة وضوحًا لا لبس فيه ولا إبهام، وهي أن جميع الفرق الإسلامية قد عارضت الخوارج ووقفت منهم موقف المعارضة الشديدة في كل معتقداتهم.
ثم أورد بعض النماذج لرأي المسلمين فيهم قديمًا وحديثًا.
فقديمًا قال عنهم ابن عباس: (ليس الحرورية بأشد اجتهادًا من اليهود والنصارى وهم يضلون)[58].
كما كتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى يحيى بن يحيى ومن معه من الخوارج العاصية الذين خرجوا في عهده يقول لهم:
سلام الله عليكم. أما بعد: فإن الله عز وجل يقول: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾[النحل: 125]، وإني أذكركم أن لا تفعلوا كفعل آبائكم ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47]. فبذا تخرجون من دينكم وتسفكون الدماء، وتستحلون المحارم؟ فلو كانت ذنوب أبي بكر وعمر تخرج رعيتهما من دينهم كانت لها ذنوب فقد كان آباؤهم في جماعتهم فما جمع شركتكم على المسلمين وأنتم بضعة وأربعون رجلًا وإني أقسم بالله لو كنتم أبكارًا من ولدي وتوليتم عما دعوتكم إليه، ولم تجيبوا لدفعت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة. فهذا النصح إن أجبتم وإن استغششتم فقديمًا استبغض الناصحون)[59].
وحديثًا يرميهم الشيخ أبو زهرة بالتعصب الذي ساد مناقشاتهم وتعصبهم في بعض الجدل وتحيزهم إلى جانب فكرة واحدة وكذبهم أحيانًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإيجاد الدليل على مزاعمهم، مع تمسكهم بظواهر القرآن دون تجاوزه إلى المقصد والمرمى[60].
ولا أجد بعد هذا أفضل من صوت الحق الذي لا يعدم أن يجد من يردده بعزم وثبات على لسان المستشرق ولتر. م باتون إذ يقرر في صرامة: وعندي أنه لا بقاء للإسلام إلا ببقاء السنة، ففي سلامتها سلامته وفي صونها صونه[61].
ولا يصرح بهذا القرار الحاسم الذي وصل إليه في كتابه عن (أحمد بن حنبل والمحنة) إلا لأنه لاحظ من خلال أبحاثه أن (الكتاب الأوروبيين كتبوا ما كتبوه عن عقائد السنة الإسلامية وقد غلب عليهم شعور النفرة منها والاستثقال لها، كما أنهم خصوا المعتزلة بأكثر مما يستحقون من إطراء وتقدير)[62].
فلا غرابة إذًا في أن يشمل الإطراء الخوارج أيضًا. أليسوا مخالفين لأهل السنة؟!!
كلمة أخيرة:
ويمكن بعد عرضنا للفصلين الخامس والسادس أن نستخلص النتائج الآتية:
أولًا: لقد ظل هذا العهد أي منذ انتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى حتى انتهاء عهد الخلافة الراشدة باستشهاد سيدنا علي بن أبي طالب. ظلت هذه الفترة هي المثالية في أنظمة الحكم الإسلامي لقيام فكرة الخلافة والأمل المرتجى تحقيقه على مدى عصور تاريخ المسلمين وخاصة عصر أبي بكر وعمر بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقد جذب هذه الفترة اهتمام الفرق الإسلامية بشتى معتقداتها وعلى اختلاف مذاهبها فالتفتت إليها إما للتأييد، كما فعل أهل السنة والجماعة، وإما للنقد والتجريح كما تناولت الشيعة الصاحبين عمر وعثمان بن عفان، أو للتكفير كما ابتدع الخوارج في حق الخليفتين الأخيرين.
وإلى وقتنا الحاضر فما زال هذا الماضي الحافل يستأثر باهتمام فريقي الإسلام الكبيرين أهل السنة والشيعة، فيدرسون ويحققون ويتأثرون به فيترك آثاره على أفكارهم.
فإن أهل السنة ينظرون إلى هذه الحقبة من التاريخ الإسلامي على أنها الفترة المثالية وأصبحوا يقيسون من تولي الحكم من بعد على سنن الخلفاء الأربعة حيث كان الوازع دينيًا كما يرى ابن خلدون فعهدوا إلى من يرتضيه الدين ثم كان العصبية منذ تولي معاوية الخلافة.
ولكن الشيعة ذهبت إلى الطرف الآخر المضاد وخاصة الشيعة الإمامية التي ينطوي تحت لوائها أكثرية الشيعة، فاعتبرت الحكومات الإسلامية منذ انقبض الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن عدا سنوات حكم علي بن أبي طالب حكومات غير شرعية لأن الحكام الشرعيون هم الأئمة الإثني عشر وحدهم سواء تيسر لهم مباشرة الحكم أو لم يباشروه[63].
والأعجب من هذا أن الشيعة مع إيمانهم بإمامة على، فقد لعنوا من على منابرهم الخلفاء الثلاثة الأول إذ في اعتقادهم هم الغاصبين للإمامة وما زالوا يلعنوهم من على منابرهم إلى يومنا هذا[64].
ثانيًا: إن الخوارج هم أول حزب سياسي تكون في تاريخ الإسلام، ولكنه لم يستطع الصمود بسبب غلوه وتطرفه أمام الكثرة الغالبة من المسلمين، وبعد أن أصبح موضع نقد وهجوم من الفرق جميعًا فلم يبق إلا الصورة المعتدلة ممثلة في الأباضية التي استطاعت أن تنجو من الاندثار لاعتدالها ومسايرتها لأصول المعتقدات عند المسلمين.
ثالثًا: والنتيجة الأخيرة التي توصلنا إليها هى أن الخوارج بالرغم من تجمعهم في إطار أفكار خاصة كالتبري من عثمان وعلى وتقديم ذلك على كل طاعة وتكفير أصحاب الكبائر. ورأيهم في الخروج على الإمام إذا خالف السنة[65]. إلا أن هذه الأفكار المتناثرة لم تبلغ مرتبة التفكير الأيديولوجي المنظم على نسق النظريات المترابطة التي كتب لها البقاء والحياة كما هو الشان لدى الفرقتين الكبيرتين: أهل السنة، والشيعة.
[1] الأستاذ، عبد السلام محمد هارون، من مقدمة كتاب موقعة صفين، لنصر بن مزاحم.
[2] مقدمة ابن خلدون، الفصل الثلاثون، ص 24.
[3] وقعة صفين لنصر بن مزاحم، ص 33، 34.
[4] نفس المصدر، ص 37، (وقعة صفين).
[5] المبرد (متوفى في 285هـ)، الكامل في اللغة والأدب، ص 13، ج 1.
[6] المقدمة، الفصل الثلاثون، ص 214.
[7] البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 342.
[8] الباقلاني، الإنصاف، ص 159.
[9] الدكتور الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 47.
[10] الدكتور، محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 48.
[11] المصدر نفسه، ص 76، 77، النظريات السياسية.
[12] الإسفراييني، من مقدمة كتاب (التفكير في الدين- الكوثرى) ص 6.
[13] نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 2، ص 18.
[14] الخطيب على بن الحسين الهاشمي، وقعة النهروان، أو الخوارج، ص 154.
[15] الرازي، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ص 46- 51.
[16] الملطي، التنبيه والرد على أهل الأهواء.
[17] مقالات الإسلاميين، ص 101.
[18] الملطي، التنبيه، ص 501.
[19] نفس المصدر، ص 54. 55.
[20] المرجع السابق، ص 55.
[21] فنسك وآخرين، ط 1352هـ/1933م، دائرة المعارف الإسلامية، ص 11.
[22] المرجع السابق، ص 13.
[23] الملطي، التنبيه، ص 56.
[24] نفس المصدر، ص 57.
[25] الملل والنحل، ج 1، ص 155.
[26] الملل والنحل: ص 157، 158.
[27] الفصل، ج 4، ص 157.
[28] البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 18.
[29] الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص 127، 128.
[30] علي بن الحسين الهاشمي، (كتاب وقعة النهروان أو الخوارج)، ص 99.
[31] الخوارج والشيعة، فلهوزن، ص 35، 36.
[32] هامش المرجع السابق، ص 35.
[33] وقعة النهروان أو الخوارج، ص 204.
[34] تاريخ اليعقوبي، (متوفى 292هـ- 904م)، ج 2، ص 167.
[35] ابن الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (متوفى 377هـ- 987م) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص 51.
[36] كتاب التنبيه، ص 52.
[37] المرجع السابق، ص 53.
[38] نفس المصدر، ص 54.
[39] التنبيه، ص 52.
[40] التنبيه، ص 53.
[41] النسفي، بحر الكلام في علم التوحيد، ص 47، 48.
[42] ابن حزم، الفصل، ج 4، ص 156.
[43] المصدر السابق، ص 157.
[44] ابن حزم، المفاضلة ببن الصحابة، ص 66.
[45] الماوردي، (450هـ- 1058م)، الأحكام السلطانية، ص 58.
[46] الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 59.
[47] الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 60.
[48] من المحتمل أن فلهوزن استخلص هذه التسمية من نص المسعودي في (مروح الذهب) ص 305، وهو (وكان مسعد بن السبكي وابن الكواء وطبقتهم من القراء الدين صاروا بعد خوارج قالوا من أشد الناس في الإجابة إلى حكم المصحف).
[49] فلهوزن، الخوارج والشيعة، ص 20.
[50] نفس المصدر، ص 25.
[51] فلهوزن، الخوارج والشيعة، ص 29.
[52] المرجع نفسه، ص 31.
[53] الخوارج والشيعة، ص 33.
[54] فان فلوتن، السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية، ص 69.
[55] عمر أبو النصر، كتاب (الخوارج في الإسلام) ص 25، مكتبة المعارف، بيروت، سنة 1956م.
[56] نفس المصدر، ص 29.
[57] المرجع السابق، ص 54.
[58] الملطي، التنبيه، ص 174.
[59] الملطي، التنبيه، ص 174.
[60] الشيخ أبو زهرة، المذاهب الإسلامية، ص 115، 116.
[61] ولتر. م. باتون، أحمد بن حنبل والمحنة، ص 34.
[62] ولتر. م. باتون، أحمد بن حنبل والمحنة، ص 40.
[63] السيد محب الدين الخطب، الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثني عشرية، ص 14.
[64] الدكتور النشار، نشاط الفكر، ج 2، ص 10.
[65] الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 156، 157.
الألوكة | |
|