الحمدُ لله الواحدِ الأحد، الفرد الصمد، الذي لم تكن له صاحبة ولا ولد، والصلاةُ والسلام على رسولِه الذي نصره الله في بدر وفي أُحُد.
وبعد:
فمن الحقائقِ المهمة المقرَّرة: أنَّ
الدين هو السياسة، ولا يمكن تصور الدينِ بغير سياسة، والذين يفترون على
الله الكذبَ فيقولون: إنَّ الدينَ عَلاقةٌ بين العبدِ وربه فقط - مخطئون عن
عمدٍ أو جهل، ومثلهم في ذلك مثل مَنْ يقول: إنَّ الإنسان ينتفعُ بالدين
فيما بينه وبين الله، وينتفع بالعلمِ في تدبيرِ شؤونه اليومية؛ وذلك لأنَّ
الإسلام - الدين الحق - هو منهجُ الحياة، بل هو الحياة! فلا يمكنُ فصلُ
الدينِ عن الدولة، ولا عن واقعِ حياتنا، فإننا نحيا بالإسلام، ونقوم به،
ويقوم بنا أو بغيرنا.
والسياسةُ بالمفهومِ الاصطلاحي:
هي القيامُ على مصالحِ الرعية بما يصلحُهم، ومن هذا المنطلقِ تصبح قيادةُ
الأسرةِ سياسة، وقيادة الدولةِ سياسة، وكلُّ راعٍ في رعيتِه يسوسهم؛ أي:
يقومُ عليهم بما يصلحهم، وعلى هذا فإنَّ الدعوةَ إلى الله تقومُ على
السِّياسةِ في كلِّ شأن من شؤونها، وتربية الأجيال تربية صحيحة على الكتابِ
والسنة بفهمِ سلف الأمَّةِ سياسة، ونحن - أهل السنة والجماعة - نعتقدُ
أنَّ تربيةَ الأجيال هي الطريقُ الصحيح لترشيدِ الأمة، ووضعها على طريقِ
الاستقامة الذي أمَرَنا الله - عزَّ وجلَّ - باتباعه، وكما يُقال: إنَّ
الوزير كان في يومٍ من الأيام طفلاً، ولو أنَّنا أحسنَّا تربيتَه في الصغر
لأصبحَ عند كبرِه صالحًا، وهذا معناه أننا نؤهلُ للأمَّةِ قادةً يفهمون
الكتابَ والسنة بفهمِ السَّلفِ الصالح، فإذا وصلوا إلى مناصب معينة، أو
اشتغلوا بالحكمِ، فإنَّهم يحسنون بما عندهم من التربيةِ الصحيحة، ويُمكن أن
نشيرَ إلى بعضِ المسائل السياسية التي يكتنفُها الغموض، ويقعُ فيها الخلَل
وسوء الفهم، فمن هذه المسائل:
أولاً: بعضُ
التوجُّهاتِ الإسلامية تكونُ حريصةً على الوصولِ إلى الحكمِ؛ بدعوى أنَّه
يمكنهم من خلالِه أن يصلوا إلى تطبيقِ الشريعةِ والاحتكامِ إليها، وهنا يقع
الخلل؛ لأنَّ منازعةَ الحكَّامِ تؤدِّي في كلِّ الحالاتِ إلى وقوع الفتَن،
وفي نفسِ الوقت لا بد أن تكونَ الأمَّةُ أو المجتمع مؤهَّلاً للقيامِ بهذا
العبْء بصورة صحيحة، وليس بصورة دعائية فقط، أضفْ إلى ذلك أنَّ الوصولَ
إلى الحكم ليس هدفًا في ذاتِه، بل هو وسيلةٌ لتطبيقِ شرع الله، فالواجبُ
علينا أن نطالبَ الحكام بتطبيقِ الشريعة، ونقدِّمَ لهم في ذلك النصيحةَ
الواجبة بالضَّوابطِ الشرعية التي قرَّرتْها الشَّريعة.
ثانيًا: هناك
مَن يطالبُ الحكَّامَ بتطبيق الشريعة دون أن يبينَ لهم ما هي الشريعة؟
ودون أن يقدمَ لهم الإطارَ الذي يمكنُ العمل من خلالِه من النَّاحيةِ
التنفيذية أو الواقعية، فالذي ينبغي هو أن يقومَ العلماءُ ببيانِ الشريعة
للحكَّام، وأن يسألَ الحكَّامُ العلماءَ عن أحكامِ الشريعة، فالعلماءُ
يبيِّنون، والحكَّام يسألون.
ثالثًا: هناك
مَن يقول: ينبغي على أهلِ السنة القائمين على أمر الدعوةِ أن يدخلوا
المجالسَ النيابية، وأن يشاركوا في صنعِ القرار، وهناك من يقول: بل ينبغي
عليهم أن يشتغلوا بدعوتِهم للعملِ على نشرِ العقيدة، وتربية الأجيال.
والأمرُ في تقديرِنا ليس واحدًا، فقد يكون
من المصلحةِ أحيانًا أن يتقدمَ علماءُ أهل السنة ودعاتها للمشاركةِ في صنع
القرار السياسي، وذلك إذا كانت المصلحةُ راجحة، والمفسدةُ المقابلة لها
أقل أو منعدمة؛ كما قال يوسف - عليه السلام -: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
﴾ [يوسف : 55] في موقفٍ كان يحتاجُ معه إلى مثلِ هذا المسلك، ولكن في بعضِ
الحالات قد تكون المشاركةُ أو محاولة المشاركة في صنعِ القرار ستفضي إلى
الوقوعِ في مواجهة، واصطدامٍ بالسلطة القائمة، أو إحداث فتنة، أو أن نكونَ
غيرَ مؤهَّلِين لتحمُّلِ هذه المسؤولية في وقتٍ معين، أو غير ذلك من
الأسباب، وهنا تكون المفسدةُ راجحة، والشريعةُ تمنع من الخوضِ في مسألةٍ
تكون المفسدةُ فيها راجحة؛ إعمالاً للقاعدةِ الأصولية المعتبرة عند أهلِ
العلم: (درءُ المفاسدِ أولى من جلبِ المصالح)،
وإذا تعارضتْ مفسدتان أو مفسدة ومصلحة دفعنا المفسدةَ الأكبر بارتكابِ
المفسدةِ الأقل، أو حصَّلنا المصلحةَ الأعلى بالتنازلِ عن المصلحة الأقل،
وهذا كلُّه في إطارِ الشريعة، وليس في إطارِ الأهواء أو التقديراتِ
الشخصية.
أمَّا عن الإعلامِ الإسلامي فإنه إلى الآن
- للأسف - لا يعملُ من خلالِ إطارٍ متكاملٍ تُسخَّرُ فيه جميعُ الوسائل،
فالإعلام الإسلامي يعتبر من أقوى وأوسع وسائلِ الإعلام المتاحة إذا تَمَّ
استغلاله، فإذا تصوَّرْنا أنَّ هذه الوسائلَ الإعلامية يدخلُ فيها الأذانُ
والمنبر، والمحاضرةُ والندوة والمسابقة، والكلمةُ المكتوبة والمقروءة
والمسموعة، والإذاعةُ والتلفزيون، والمجلاتُ والصُّحُف، والدوريات،
بالإضافةِ إلى وسيلةٍ هامة انفرد بها الإسلامُ وهي: "القدوة"!
كلُّ هذه الوسائل إذا نظرنا فيها نظرةً
فاحصةً، سنجدُ أننا لم ننتفعْ بها على الوجهِ الصحيح الذي يجعلُها تؤدِّي
رسالتَها في نشر الدعوة، وبيان منهجِ أهل السنة والجماعة.
فخطيبُ الجمعةِ على سبيل المثال يكونُ في
كلِّ بلاد المسلمين هو صاحب الكلمة، والكلُّ ينصتُ لما يقول، ويجلسُ ضمن
المصلين والمستمعين الحكَّامُ والأمراء والوزراء والرؤساء والوكلاء، بمعنى
أنه تُتاحُ له فرصةُ مخاطبة هؤلاء جميعًا.
وعلى هذا فإنَّنا نستطيعُ القول: بأنَّ
القصورَ في استخدامِ هذه الوسائلِ راجعٌ إلى القائمين عليها، وليس إلى
المستقبلين لها بالدرجةِ الأولى.
وهذا الخلل يرجعُ - أساسًا - إلى عدمِ
تهيئة القائمين على هذه الوسائلِ التهيئةَ الصحيحة؛ أي: عدم الإعدادِ
الجيد، وكذلك عدم وجودِ الخبرة الكافية التي تجعلُهم يحسنون الانتفاعَ بهذه
الوسائل، واستغلالها في توضيحِ الإطار الكامل لمنهجِ الإسلام في جميع
نواحي الحياةِ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغير ذلك، وما زالتْ
وسائلُ الإعلامِ في بلاد المسلمين تفقدُ القدرةَ على تغطيةِ كافَّةِ أخبارِ
ومشاكل وهموم العالم الإسلامي، ويرجع ذلك إلى ضعفِ أو انعدامِ التعاون
والتنسيق بين هذه الوسائل.
إنَّ وسائلَ الإعلام التي سبق أن أشرنا
إليها ينبغي أن تعالِجَ الخلَل وتحسن الأداء، حتى تقومَ بدورِها في تحويلِ
شعوب المسلمين مِن مُستقبلين للدَّعوةِ إلى مشاركين فيها.
وفي تقديرنا؛ إنَّ الوصولَ إلى ذلك يقومُ على ثلاثةِ أشياء: توحيد المصدر، وتوحيد المنهج، وتوحيد الهدف:
فأما توحيد المصدر:
فهذا يكونُ في تلقِّي المعلوماتِ والمفاهيم من منطلقِ الكتاب والسنة بفهمِ
سلف الأمَّة، ومن كتبِ ومصادر أهلِ العلم المعتَبرين المتَّفَقِ على
إمامتِهم؛ كأبي حنيفة ومالك والشَّافعي وأحمد، وكذلك البخاري ومسلم
وغيرهما، وبقية علماء السَّلفِ الصَّالح.
وأمَّا توحيد المنهج: فيحتاجُ
إلى تنسيقٍ وتعاون بين أهلِ السنة في مختلفِ أنحاء العالم من جانبٍ، وفي
داخلِ كلِّ دولةٍ من جانب آخر؛ وذلك بقصدِ الوصولِ إلى منهجٍ موحَّدٍ في
العلم والعمل.
وتوحيد الهدف:
هو الركنُ الثالث الغائب في وسائل إعلامنا، فليس عندنا خطةٌ زمنية وأهدافٌ
وغايات محدَّدةٌ واضحة ننتهي إليها، ونتابع تنفيذَها على المدى القصير
والطويل، حتى يمكن أن نعملَ جميعًا في اتجاهٍ واحد - إن شاء الله - إذا
خلصت النية وصلح العمل، والله من وراء القصدِ وصلِّ الله وسلِّم وبارك على
نبينا محمَّدٍ وآله وصحبه.
مجلة التوحيد