الشيخ سيد Ù…Ø¨Ø§Ø صاحب الموقع
عدد الرسائل : 2210 العمر : 63 العمل/الترفيه : كاتب اسلامى تاريخ التسجيل : 07/12/2008
| موضوع: الإمام الشوكاني إمام اليمن والمسلمين مايو 24th 2012, 9:31 am | |
| الإمام الشوكاني إمام اليمن والمسلمين
ميلاده ونشأته هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني . والشوكاني نسبة إلى عدني شوكان ، أو إلى هجرة شوكان ، وهما اسمان لقرية واحدة ، بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم ، وهي نسبة والده . والصنعاني نسبة إلى صنعاء . ولد بهجرة شوكان « حسبما وُجد بخط والده ، في وسط نهار يوم الاثنين الثامن والعشروين من شهر القعدة سنة 1173 هـ » ، ولا مجال للاختلاف في تاريخ ميلاده بعد هذه النص من والده . وكان والده قاضي صنعاء ، ومن العلماء البارزين فيها ، فيه طيبة وصلاح تجعل من يعرفه حق المعرفة يتيقن أنه من أولياء الله ، ولعل هذا كان له أثره في حياة ابنه بعد ذلك . نشأ بصنعاء فقرأ القرآن وجوَّده على جماعة من مشايخ القراء بصنعاء ، وفي أثناء ذلك كان قد حفظ عدة مختصرات : في الفقه والنحو ، والعروض ، وآداب البحث وعلوم اللغة ، وطالعَ عدة كتب من كتب التاريخ والأدب ، ثم شرع في طلب العلم فدرس على والده ، وعلى البارزين من العلماء في عصره في مختلف العلوم : الدينية ، واللسانية ، والعقلية ، والرياضية ، والفلكية . وظل كما يقول : يأخذ عن شيوخه حتى استوفى كل ما عندهم من كتب ، بل زاد في قراءاته الخاصة على ما ليس عندهم ، وكان طلبه للعلم في صنعاء نفسها ، لم يرحل عنها على عادة طلاب العلم لعدم إذن أبويه له في الرحلة ، فكان عند إذنهما . وكان في أثناء دراسته يُلقي ما يأخذه عن مشايخه إلى تلاميذه الذين اجتمعوا عليه ، وهو لا يزال في دور الطلب الأول ، ولذلك كانت دروسه تبلغ في اليوم والليلة ثلاثة عشر درساً ، منها ما يأخذه عن أساتذته ، ومنها ما يلقيه على تلاميذه . ثم تفرغ لإفادة طلاب العلم ، فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دروس كما قال : في فنون متعددة كالتفسير والحديث والأصول والمعاني والبيان ، والمنطق . وتقدم للإفتاء وهو في نحو العشرين من عمره ، وكانت ترد عليه الفتاوى من خارج صنعاء ، وشيوخه إذ ذاك أحياء ، وكاد الإفتاء يدور عليه وحده ، وهو في هذه السن . وقد أحاط – إلى جانب العلوم العربية الدينية – بالعلوم الرياضية والطبيعية والإلهية ، وعلم الهيئة ، والمناظرة والوضع ، وحده دون معلم مباشر ، ودرّس هذه العلوم أيضاً لتلاميذه . وفي الجملة ، فقد درس دراسة واسعة ، واطلع اطلاعاً يندر أن يحيط به غيره ، فليس من المستطاع سرد ما درسه من كتب ، أو استجازه من مراجع . ومن يرجع إلى كتابه – مثلاً – (إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر) يدرك مدى ما كان عليه هذا الرجل من تنوّع في الثقافة ، واتساع فيها . وقد برع في كل ذلك تقريباً ، وصنف ودرس فيه . ولا غرو أنْ رأينا بعض كتاب التراجم يعرّف به فيقول : مفسر ، محدث ، فقيه ، أصولي ، مؤرخ ، أديب ، نحوي ، منطقي ، متكلم ، حكيم.
حياته العلمية والعامة وقد أعانته هذه الثقافة الواسعة والعلمية ، وذكاؤه الخارق ، إلى جانب اتقانه للحديث الشريف وعلومه ، على الاتجاه وجهة اجتهادية ، وخلْعِ ربقة التقليد ، وهو دون الثلاثين ، وكان قبل ذلك على المذهب الزيدي ، وصار علماً من أعلام الاجتهاد ، وأكبر داعية إلى ترك التقليد ، وأخْذ الأحكام اجتهاداً من الكتاب والسنة ، فهو بذلك يعد طليعة المجددين والمجتهدين في العصر الحديث ، ومن الذين شاركوا في إيقاظ الأمة الإسلامية والعربية في هذا العصر . وقد أحس بوطأة الجمود ، وجناية التقليد الذي ران على الأمة الإسلامية من بعد القرن الرابع الهجري ، وأثر هذا كله في زلزلة العقيدة الإسلامية ، واعتناق البدع والاعتقاد في الخرافات وشيوعها ، وتحلل الناس من التعاليم الدينية ، وانكبابهم على الموبقات والمنكرات ، مما جعله يشرع قلمه ولسانه في وجه الجمود والتقليد ، ويقف حياته على محاولة تغيير هذه الأوضاع الفاسدة ، وتطهير تلك العقائد الباطلة ، فكتب للعلماء تارة ، وللعوام أخرى ، وللسلاطين ثالثة ، ومما كتبه في ذلك إلى الحاكم أو إمام المسلمين في اليمن وغير اليمن وهو لا يزال بعيداً عن الحياة السياسية ، رسالة بعنوان « الدواء العاجل في دفع العدو الصائل » ، بيّن فيها أن الفتنة لا تنزل بالبلاد ، ولا يتغلب عدوها عليها ، إلا بسبب ما عليه أهلها من معاصٍ ، وذلك على سبيل العقوبة لهم ، وقد وقع هذا في الإسلام ، فقد سلط الله على أهله « طوائف من عدوهم عقوبة لهم ، حيث لم ينتهوا عن المنكرات ، ولم يحرصوا على العمل بالشريعة المطهرة ، كما وقع من تسليط الخوارج ، ثم تسليط القرامطة والباطنية ، ثم تسليط الترك ، وكما يقع كثيراً من تسليط الفرنج ونحوه » . وهو يصنف حال الشعب المحكوم إلى ثلاثة أصناف : « رعايا يأتمرون بأمر الدولة ، وينتهون بنهيها ، وأكثر هؤلاء لا يحسنون الصلاة ، فمنهم من تركها كلية ، ومنهم من أداها بطريقة غير مقبولة ، وكذلك الصيام ، فربما لا يكمل شهر رمضان صوماً إلا القليل ، وكثيراً ما يأتي هؤلاء بألفاظ كفرية كالحلف بالطلاق ، والخلف بالخروج من الدين ، والاستغاثة بغير الله تعالى ، من نبي أو رجل من الأموات » . والقسم الثاني ، وهم بقية البلاد الإسلامية ، التي ليس للدولة عليها سلطان ، كبلاد القبلة ، والشرق ونحو ذلك « ممن لم يسكنوا المدن ، وهؤلاء الأمر فيهم أشد وأفظع ، فإنهم جميعاً لا يحسنون الصلاة والقراءة . وبالجملة فالفرائض الشرعية بأسرها من غير فرق بين أركان الإسلام الخمسة وغيرها مهجورة عندهم ، بل كلمة الشهادة قد ضاعت من ألسنتهم فضلاً عن قلوبهم وسط الانشغال بأوليائهم من أصحاب القبور وممن يدعون الصلاح فيهم ». وأما القسم الثالث : وهو الساكنون في المدن ، فهم وإن كانوا أقرب من هذين إلى الخير ، إلا أن غالبهم عامة جهّال ، يهملون كثيراً مما أوجبه الله عليهم من الفرائض ، جهلاً وتساهلاً ، « فهم لا يحسنون أركان الصلاة ، ويتعاملون في بيعهم وشرائهم بطرق يخالفون فيها المسلك الشرعي ، وكثيراً ما يقع منهم الربا ، ويتكلمون بالألفاظ الكفرية ، وينهمك كثير منهم في معاص صغيرة وكبيرة ، ومع ذلك فهم أقرب الناس إلى الخير ، وأسرعهم قبولاً للتعليم ، إذا وجدوا مَن يعزم عليهم عزيمة مستمرة دائمة » . ثم يوجّه النداء إلى الحاكم وأنه هو المسئول المباشر عن هؤلاء جميعاً فيقول : « والواجب على إمام المسلمين ، وعلى أعوانه ، افتقاد هؤلاء ، والبحث عن مباشرتهم ، وعن كيفية معاملتهم ممن يتولون عليهم » . ويختم هذه الرسالة بقوله : « والله المسئول أن يلهم إمام المسلمين ، أقام الله به أركان الدين ، القيامَ بما أرشدناه إليه في هذه الرسالة ، وإبلاغ الجهد في أحوال هذه الأحكام التي ذكرناها ، فإنه إذا فعل ذلك صلحت له أحوال الدين والدنيا ، ودفع الله عن رعاياه كل محنة ، ولم يسلط عليهم عدواً قط كائناً من كان » . ولا شك في أن تحوّل هذه الأمة الإسلامية إلى تلك الحالة من الأعمال لا يكون إلا عن نبذها لكتاب الله وسنة رسوله ، وتوضهم عنها بمقالات أصحاب المذاهب السابقين ومَن تبعهم من العلماء الذين جمدوا على آراء هؤلاء السابقين ، واتخذوا التشيع عقيدة ، والتصوف مذهباً . ومن هنا وقف على مواطن الداء ، وأخذ يشخص الدواء ، فبيّن أن الرجوع إلى كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هو الطريق الوحيد لصلاح الدين والدنيا ، وأن على علماء الدين أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بميزان الكتاب والسنة ، لا بأقوال سلفهم ممن هم مثلهم ، بل ربما أقل من مستواهم في العلم والتفكير ، وفرض الحياة العلمية والكتابية ، وأن هذه هي الروح الاجتهادية التي دعا إليها القرآن الكريم وسار عليها الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح . وعلى الشعب أن يزن أفعاله بميزان الكتاب والسنة ا الذي لا يتعارض مع ميزان العقل الصحيح . وعلى هذا الأساس صدر في دعوته إلى عودة الاتجاه الاجتهادي ، فصارت كل بحوثه ومؤلفاته على هذا الأساس ، ووجدنا فيها العناية كل العناية بالكتاب والسنة ، والمساهمة في إحياء علومها ، سواء منها ما هو عقلي ، أو لساني وبياني ، أو تاريخي . ويمكن أن نتبّين أبعاد هذه الحياة العلمية العملية في ثلاثة خطوط بارزة : 1)دعوته إلى الاجتهاد ونبذ التقليد . 2)دعوته إلى العقيدة السلفية في بساطتها أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم . 3)دعوته إلى تطهير العقيدة وتنقيتها من مظاهر الشرك الخفي . (1) دعوته إلى الاجتهاد لقد ذهب إلى أن ترك الاجتهاد من القادر عليه كفر وشرك ، لأنه تعطيل لكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإحلال لقول صاحب المذهب محلّهما . والإمام الشوكاني في هذا يعبّر عن الروح الاجتهادية لدى الأئمة السابقين ، وإن كان قد تشدد في الحكم على المقلد القادر على الاجتهاد بالشرك . فمثلاً ، نرى الإمام الغزالي يوجب الاجتهاد على القادرين عليه دون أن يُدينه بالشرك ، أو الكفر ، إذا أصرّ على التقليد ، لأن الذي وصل إلى درجة الاجتهاد « غير عاجز ، فلا يكون في معنى العاجز ، فينبغي أن يطلب الحق بنفسه ، فإنه يجوز الخطأ على العالِم بوضع الاجتهاد في غير محله ، كما أنه يجوز على المجتهد أيضاً الذي نقلده أن يبادر بالحكم قبل استتمام الاجتهاد ، والغفلة عن دليل قاطع ، والعالم المقلد قادر على معرفة ما يعرفه إمامه الذي يقلده ، ومن الممكن أن يتوصل بنفسه إلى ما يريده ، إما إلى درجة اليقين ، وإما إلى الظن ، فكيف يبني الأمر على عماية كالعميان ، وهو بصير بنفسه ؟ ». ويحمل على هؤلاء المقلدين الذين يبلغ بهم التعصب لإمامهم أن يعتقدوا فيه العصمة عن الخطأ في الأحكام ، مع أن المجتهدين أنفسهم لا يدعون العصمة « أو يعدون الحق وقفاً عليهم ».
وكذلك يرى الإمام الشوكاني أن القدرة على الاجتهاد ليست بالأمر الذي يتطلب تفوقاً في الإحاطة بعلوم الاجتهاد وعلم السنة ، بل يكفي في ذلك أن يكون على علم من لغة العرب ، بحيث يستطيع به أن يفهم كتاب الله العزيز ، بعد أن يقوِّم لسانه بشيء من علم النحو والصرف ، وبعض من مهمات كليات أصول الفقه ، واطلاع عن كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون ، كالصحيحين وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة ، أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره مع البيان لما هو صحيح ، ولما هو حسن ، ولما هو ضعيف .
« ولا يشترط في هذا أن تكون الأحاديث محفوظة له ، بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواطنها عند الحاجة » ، وهو لا يرى بعد ذلك ضرورة الإحاطة بعلوم البلاغة لفهم كتاب الله ، فإنه يغني عنها ما عليه المجتهد من معرفة باللغة والنحو والصرف والأصول . وأما علوم البلاغة فإنها ليست لازمة لاستخراج الأحكام ، وإنما هي لمعرفة بلاغة القرآن الكريم ، وما عليه من إعجاز .
فالتبحر في هذه العلوم ليس مراداً للقدرة على الاجتهاد ، ولا مانع منه عند الإمكان ، فإن به فقط يظهر التفاوت بين المجتهدين . وإلى مثل هذا التبسيط ذهب الشيخ الظاهري في دعوته الإصلاحية أخيراً . هذا بالنسبة للعلماء المختصين . وأما غيرهم لا يجوز لهم التقليد أيضاً ، ولا أخذ آراء الآخرين دون دليل ؛ بل لا بد أن يسألوا أهل الذكر عن الأحكام ويسْتَروُونهم النصوص في ذلك ، ويطلبون منهم الأدلة على ما يقولون ، وإلا كانوا مقلدين أيضاً ، لأن التقليد ، كما أجمع عليه العلماء ، هو أخذ رأي الغير دون دليله ، وأما من يطلب الدليل فقد ارتفع على مستوى التقليد وأصبح قريباً من رتبة الاجتهاد ، فهذا صنف ثالث بين المجتهدين والمقلدين ،
وهو من رتبة وسط بينهما ، فهو عامل بدليل بواسطة مجتهد . وهذا الصنف كان موجوداً أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم ، وهو غالب السلف الصالح وهم خير القرون ، ومن أنكر هذا وقال : إن جميع الصحابة كانوا مجتهدين ، أو مقلدين ، فقد أعظم الفرية ، وجاء بما لا يقبله عارف .
وهو في ذلك أقرب إلى روح الدين التي تخاطب في الإنسان عقله وتفكيره من الإمام الغزالي الذي لا يرى الأمر إلا أحد وجهين : إما اجتهاد للقادر عليه ، وإما تقليد للعامي أو الذي لم يصل إلى درجة الاجتهاد من المتعلمين . وعلى هذا فالإمام الغزالي يبيح التقليد بلفظه ومعناه ويجعل له شروطاً وأوضاعاً يلتزمها المقلد في أخذه عن غيره . والإمام الشوكاني يواجه المقلدين في العالم الإسلامي بكلام أئمتهم الأوائل الذين اجتهدوا لآرائهم بأنهم من الممتنع عليهم ، بل من المحرم أن يقلدوهم في تلك الآراء ، بل يقارنوا بينها وبين الحديث ؛ فإذا صحّ الحديث فهو مذهبهم ، هذا هو رأي مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل وغيرهم من علماء الاجتهاد ، سواء كانوا من مذاهبهم أو على مذاهب أخرى . وهو في هذا قريب من الإمام الغزالي الذي يواجه المقلدين من العلماء بأنهم يقلدون من لا يرى لنفسه مزية على غيره ، أو أنه قد أصاب الحق من جميع وجوهه . وفي القطر اليمين يواجههم بالإمام الذي قلدوه وبآرائه وهو الإمام الهادي يحيى بن الحسين ، وأنه « صرَّح تصريحاً ، لا يبقى عنده شك ولا شبهة ، بمنع التقليد له ، وهذه مقالة مشهورة في الديار اليمنية ، يعلمها مقلدوه فضلاً عن غيرهم ، ولكنهم قلدوه شاء أم أبى ، وقالوا : قد قلدوه وإن كان لا يجوز ذلك عملاً بما قاله بعض المتأخرين : أنه يجوز تقليد الإمام الهادي ، وإنْ منع من التقليد .
وهذا من أغرب ما يطرق سمعك ، وبهذا تعرف أن مؤلفات أتباع الإمام الهادي في الأصول والفروع – وإن صرحوا في بعضها بجواز التقليد – فهو على غير مذهب إمامهم ، وهذا لما وقع لغيرهم من أهل المذاهب »] . والإمام الشوكاني يرى أن المقلدين بإصرارهم على التقليد يخرجون على منطق الحياة ، وسنن الكون ، فإنهم قد ادّعوا أن الله قد « رفع ما تفضل به على مَن قبلهم من الأئمة كمالَ الفهم ، وقوة الإدراك ، والاستعداد للمعارف . وهذه دعوى من أبطل الباطلات ، بل هي جهالة من الجهالات ، فإن نهاية العالم ليست كبدايته ، بل هو سائر في طريق التطور والكمال والنضج العقلي عن طريق ازدياد المعارف وتطورها » ، وهو في هذا يتفق مع ديكارت الذي يرى « أن العلم يتقدم دائماً نحو مرتبة نسبية من الكمال ، وأن عظماء الرجال هم الذين يأتون دائماً بآراء جديدة » . ثم هناك دعوى أخرى يدَّعيها المقلدون ليبرروا بها قعودهم عن الاجتهاد وهي أن العلم كان ميسراً لمن كان قبلهم ، ولكنه الآن أصبح تحصيله صعباً عليهم وعلى أهل عصورهم المتأخرة .
ولكن الإمام الشوكاني يرى أن هذه دعوى باطلة أيضاً « فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيراً لم يكن للسابقين ، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوِّنت وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره ، وكذلك السنة المطهرة . وتكلم الأئمة في التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد ، وقد كان السلف الصالح ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر ، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين ، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سويّ » .
هذه إشارة إلى رأيه في الاجتهاد والتقليد ، وعنوان لروح مذهبه ، وهو في ذكل عالم أصيل متمكن ، مقتنع بما هو يقول ، متحمس له ، من باب التديُّن والمحافظة على الكتاب والسنة ، وهو يقول في ذلك : « والذي أدين الله به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف وشطر من مهمات كليات أصول الفقه ، في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز ، أو السنة المطهرة ، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي سواء كان قائله واحداً ، أو جماعة ، أو الجمهور » . نجد هذه الروح القوية في جميع كتبه التي وصلتنا والتي ألفت في علوم الكتاب والسنة جميعها ، مما يجعل منه مجاهداً كبيراً في هذا الميدان ، لا مجرد عالم صاحب دعوة وكفى . وقد وقف بعض كتبه على بيان وجوب الاجتهاد وعدم جواز التقليد ، مثل : كتاب « السيل الجرار » ، وكتاب « أدب الطلب ومنتهى الأرب » ، وكتاب « القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد » ، و« بغية المستفيد في الرد على من أنكر الاجتهاد من أهل التقليد » . بل لقد بلغ به دفاعه للمقلدين وتأكيده لفكرته في تطور العلم دائماً وسيره نحو الكمال ، أن ألف كتاباً للتراجم ، كدليل عملي وواقعي على أن باب الاجتهاد لم ينسدّ ، وأنه مفتوح إلى يوم الدين ، ذلك هو كتابه المشهور « البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع » ذكر فيه أصنافاً من المجتهدين ، أو ممن فاقوا رتبه الاجتهاد ، كإبطالٍ لفكرة انتهاء الاجتهاد بانتهاء القرن السادس الهجري ،
وفي ذلك يقول : « فإنه لما شاء على ألسن جماعة من الرعاع اختصاص سلف هذه الأمة بإحراز فضيلة السبق في العلوم دون خلَفِها ، حتى اشتهر عن جماعة من أهل هذه المذاهب الأربعة تعذُّر وجود مجتهد بعد المائة السادسة ، كما نُقِل عن البعض ، أو بعد المائة السابعة ، كما زعمه آخرون ... حداني ذلك إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم مما بلغني خبره إلى عصرنا هذا ، ليعلم صاحب تلك المقالة أن الله ، وله المنة ، قد تفضل على الخلف ، كما تفضل على السلف ، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف« فإنه لما شاء على ألسن جماعة من الرعاع اختصاص سلف هذه الأمة بإحراز فضيلة السبق في العلوم دون خلَفِها ، حتى اشتهر عن جماعة من أهل هذه المذاهب الأربعة تعذُّر وجود مجتهد بعد المائة السادسة ، كما نُقِل عن البعض ،
أو بعد المائة السابعة ، كما زعمه آخرون ... حداني ذلك إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم مما بلغني خبره إلى عصرنا هذا ، ليعلم صاحب تلك المقالة أن الله ، وله المنة ، قد تفضل على الخلف ، كما تفضل على السلف ، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية على اختلاف أنواعها من يقل نظيره من أهل العصور المتقدمة ، كما سيقف على ذلك مَن أمعن النظر في هذا الكتاب » .
وقد وقف جزءاً من هذا الكتاب موضع التحقيق والدراسة ، وهو « قطر الولي على حديث الولي » على ذلك أيضاً ، وبيّن فيه جهاده مع المقلدين وما رآه منهم وما قاله فيهم ، وأشار إلى أنه رأى منهم الكثير ، وقال فيهم من الشعر ما صوّر به حاله وحالهم ، وأودع ذلك كله كتابَه المتقدم : « أدب الطلب ومنتهى الأرب » .
ومن قوله في ذلك : يا غارقينَ بشؤم الجهلِ في بدع * ونافرين عن الهدى القويم ، هُدوا ما باجتهادِ فتى في العلم منقصة * النقص في الجهل لا حياكم الصمدُ لا تنكروا مورداً عذباً لشاربه * إن كان لابد من إنكاره فَرِدُوا
وهذا بالنسبة للمقلدين من الزيدية وغيرهم ، أما بقية علماء الزيدية ، وهم كثرة ، فكانوا على الاجتهاد ، وعلى تقدير وإجلال للشوكاني ، كما كانوا هم أيضاً موضع إجلاله وثنائه ، وفيهم يقول : « فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدداً يجاوز الوصف ، يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة ، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثة ، وما يلتحق بها من دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام ، ولا يرفعون للتقليد رأساً ، بل هم على نمط السلف الصالح » . وربما كان متأثراً في اجتهاده ببعض شخصيات المجتهدين السابقين منهم ، كالسيد محمد بن إبراهيم بن الوزير الذي ترجم له ترجمة حافلة ، وأثنى عليه ثناء عاطراً .
كما كان له منهم التلاميذ الكثيرون ، معاصرون ومتأخرون ، وقد وفوا له ولمبادئه ، ويكفي أن يكون منهم السيد محمد بن محمد زباره ، الذي يرجع إليه الفضل في نشر كتبه هنا في مصر ، وتعريف المصريين به ، كما أن الأئمة الحاكمين كانوا أسرع إلى اقتناء كتبه وروايتها والمحافظة عليها ، وبلغ بهم أن جعلوا ما كان منها في مكتبة صنعاء ضمن الكتب التي لا يجوز خروجها من المكتبة ، حرصاً عليها ومحافظة . (2) الدعوة إلى عقيدة السلف في الأصول
يرى الإمام الشوكاني « أن طرق المتكلمين لا توصل إلى يقين ، ولا يمكن أن تصيب الحق فيما هدفت إليه ، لأن معظمها قام على أصول ظنية ، لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل ، والفرية على الفطرة ، فكل فريق منهم قد جعل له أصولاً تخالف ما عليه الآخر ، وقد أقام هذه الأصول على ما رآه عنده هو صحيحاً من حكم عقله الخاص المبني على نظره القاصر ، فبطُلَ عنده ما صح عند غيره ،
وقاسوا بهذه الأصول المتعارضة كلام الله ورسوله في الإلهيات وما يتصل بها من العقائد ، فأصبح كل منهم يعتقد نقيض ما يعتقده الآخر ، وكل منهم يزعم أن العقل يقتضي ما يعتقده . وحاشا العقل الصحيح السليم عن تغير ما فطره الله عليه ، أن يتعقل الشيء ونقيضه ، فإن اجتماع النقيضين محال عند جميع العقلاء ، فكيف تقتضي عقول بعض العقلاء أحد النقيضين ، وعقول البعض الآخر النقيض بعد ذلك الاجتماع ؟ وما هذا الأمر إلا الغلط البحث الناشئ من العصبية » . ثم جعلوا هذه الأصول معياراً لصفات الرب تعالى ،
فأثبتوا لله تعالى الشيء ونقيضه ، ولم ينظروا إلى ما وصف الله به نفسه ، وما وصف به رسوله « بل أن وجدوا ذلك موافقاً لما تعقلوه ، جعلوه مؤيداً له ومقوياً ، وقالوا قد ورد دليل السمع مطابقاً لدليل العقل ، وإن وجدوه مخالفاً لما تعقلوه جعلوه وارداً على خلاف الأصل ومتشابهاً ، وغير معقول المعنى ولا ظاهر الدلالة . ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنة ، وجعل المتشابه عند أولئك محكماً عنده ، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقاً له عنده » ، فوقعوا في التناقض أمام فهم كتاب الله العزيز ، إلى جانب ما ذهبوا إليه من الباطل .
ومن مظاهر ذلك ما وقع فيه المعتزلة من مبدأ نفي الصفات بناءً على مبدئهم في التنزيه ، وما غلا فيه الأشعرية من الوقوع في التجسيم ، بناء على ما ذهبوا إليه من التأويل والمبالغة في الاثبات . ويحيل الإمام الشوكاني إلى جانب ذلك على بعض المسائل التي تجلّى فيها هذا الخطأ وذلك التناقض فيقول : « وإن كنتَ تشك في هذا فراجع كتب الكلام ، وانظر المسائل التي قد صارت عند أهله من المراكز ، كمسألة التحسين والتوبيخ ، وخلق الأفعال ، وتكليف ما لا يُطاق ، ومسألة خلق القرآن ، فإنك تجد ما حكيتُه لك بعينه » .
ويرى أستاذنا محمود قاسم أن هذا الاختلاف والتناقض بين علماء الكلام طبيعي « طالما كانوا ينهجون منهج الجدل ، وطالما ينسون في كثير من الأحيان أنه لا يحق للباحث في مسائل الدين أن يطبق الاعتبارات الإنسانية على الأمور الإلهية » ، وهذه هي علة التناقض والاختلاف عندهم . لذلك كان المسلك القويم في الإلهيات والإيمان بما جاء فيها هو مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، مِن حمْل صفات الباري على ظاهرها ، وفهم الآيات والأحاديث على ما يوحيه المعنى اللغوي العام ، وعدم الخوض في تأويلها ، والإيمان بها على ذلك دون تكلف ولا تعسف ولا تشبيه ولا تعطيل ، وإثبات ما أثبته الله لنفسه من صفاته على وجه لا يعلمه إلا هو ، فإنه القائل : ( ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ ) فأثبت لنفسه صفة السمع والبصر مع نفي المماثلة للحوادث في الوقت نفسه ، وأن القرآن عربي ، وخاطب قوماً عرباً على الفطرة ؛ فلا داعي للتطرق إلى ما وراء اللغة من عقليات مخترعة ، بل الواجب فهمه في ضوء ما جاءت به اللغة ، وما بيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم من شرح وإيضاح .
وينتهي الغزالي وابن رشد إلى مثل ما سينتهي إليه الشوكاني من قصور علم الكلام عن أن يُكسِب الناس الإيمان عن طريق تلك الأدله الجدلية التي لا تصلح للجمهور ولا للعلماء ، فإنها بعيدة عن أن تكون « طرقاً نظرية يقينية ، ولا طرقاً شرعية يقينية » ، وهذه الأخيرة هي الطرق التي جاء بها الكتاب العزيز ليفهم عن طريقها الخاصةُ والعامةُ ، « وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤمِّلت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين : أحدهما أنْ تكون يقينية ، والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة ، أعني قليلة المقدمات ، فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأولى » . أما أدلة المتكلمين في تعقيداتها وتشعيباتها وعدم قيامها على أسس يقينية فإنها غالباً ما يلزمها شكوك عويصة « لا يتخلص منها العلماء المهرة بعلم الكلام فضلاً عن العامة » .
ولأجل هذا فقد صرّح الإمام الغزالي « بأن الخوض في علم الكلام حرام لكثرة الآفة فيه » ، وأن الواجب الرجوع إلى طريقة السلف ، لأن مذهبهم هو الحق . ويمكن أن نعتبر هذا رداً لما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري من استحسان الخوض في علم الكلام ، وادعى أنه اجتهاد وهو جائز ، وأنه أولى بالجواز من أحكام حوادث الفروع « لأن حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أصول الشرع الذي طريقه السمع ، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كل شيء من ذلك إلى بابه » ، ثم يجعل أيضاً براهين المتكلمين صورة من براهين القرآن في إثبات وجود الله ووحدانيته .
وغني عن البيان أن يقلب الحقائق بذلك ، فإن الفروع ليست من السمعيات ، وإنما الأصول هي التي منها ، كما أن موازين علم الكلام ليست من موازين القرآن الكريم في شيء ، (3) دعوته إلى تطهير الاعتقاد
رأى الإمام الشوكاني ما أدخله غلاة الشيعة والصوفية على العقيدة الإسلامية من جراء رفعهم للقبور ، وبناء للقباب وتجميلها على الأموات من أئمتهم وأوليائهم ، وجرّهم العامة إلى زيارتها والتبرك بها ، والتوسل بأصحابها واعتقادهم فيهم القدرة على الضرر والنفع ، وشيوع هذا في الناس وتأصله فيهم ، وميلهم بهذا عن دعوة الله ، إلى دعوة هؤلاء الأموات والعكوف على قبورهم ، وطوافهم بها وتعظيمها والذبح لهم والنذر إليهم ، فأعلن أن هذا كفر صراح ، ولا يمكن أن يتفق مع شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فإنّ مقتضى هذه الشهادة ألا يعتقد إنسان في غيره أنه يستطيع أن يفعل له يختص الله وحده بالقدرة على فعله ، وألا يأتي من الأعمال ، ولا من العبادات ، ما يشعر بهذا الاعتقاد ،
وأنه من الواجب على كل مسلم أن يخلص شهادة التوحيد لله . وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله ، والنداء والاستعانة والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره : « فلا تدعوا مع الله أحداً » ، « له دعوةُ الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء » ، « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » . هذا دعاء القرآن نحو إخلاص الدين ، أو التوحيد لله .
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن رفع القبور ، أو بناء المساجد عليها أو بالقرب منها ، وبين أن هذا من خصال الذين ضلوا من النصارى واليهود من قبل ، فإنهم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً . ويرد على أئمة الشيعة أنفسهم بما أخرجه مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي عليّ : « ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألا تدعَ صورة إلا طمستَها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيتَه » .
ويبين أن بناء القبور ورفع القباب عليها ، وتجميلها على ما هو متبع الآن من شأنه أن يوحي بالعظمة في نفس الزائر من العوام ، فيقع في الكفر من حيث لا يشعر « فقد ذهب بعض أهل مكة إلى القبة المقامة على قبر الإمام أحمد بن الحسين (صاحب ذي بين) فرآها وهي موقدة بالشموع ، والبخور والطيب ينفخ في جوانبها ،وعلى القبر الستور الفائقة ، فقال عند وصوله إلى الباب: أمسيتَ بالخير يا أرحم الراحمين » . ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إضاءة القبور ، أو بنائها بالجص أي الجير ، وما يشبهه .
وعبادة الأوثان ، والأصنام قديماً ، قد تطورت في كثير من الأحوال عن مثل هذه الأبنية على الصالحين عند العرب ، وعند قوم نوح ، فاللات اسم رجل صالح كان يلت للحجاج السويق ، فمات فعكفوا على قبره . « وفي الصحيح عن ابن عباس (رضي الله عنهما) في قوله تعالى : « ولا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّاً ولا سواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونسراً » قال : هذه أسماء رجال من قوم نوح ، لما هلكوا ، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم ، التي كانوا يجلسون عليها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم يُعبَدوا حتى إذا هلكوا ونُسِيَ العلم عُبدَت . وقال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم » .
وهو يجهر بهذه الدعوة للعوام والخواص . ومما كتبه يشنع فيه على بعض الخواص ممن نسوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وانساقوا وراء التعصب والتقليد ، رسالةً بعنوان « شرح الصدور بتحريم رفع القبور » وهو على عادته يجعل المسألة التي تدور عليها هذه الرسالة صورة من صور الاجتهاد ، أو من الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول عند الاختلاف أو عند إرادة الحكم الصحيح ، فيقول : « ولنجعل هذه المسألة التي جعلناها مثالاً لما ذكرناه ، وإيضاحاً لما أمليناه : هي المسألة التي لهج بالكلام فيها أهلُ عصرنا ومصرنا ، خصوصاً في هذه الأيام لأسباب لا تخفى ،وهي : مسألة رفع القبور والبناء عليها ، كما يفعله الناس من بناء المساجد والقباب على القبور » . وهذه المسألة هي الرد على الإمام (يحيى بن حمزة) في قوله : لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك لاستعمال المسلمين ، ولم يُنكَر .
فيثبت أن هذا أول نداء بهذه البدعة صدر في الديار اليمنية ، ثم تتابع المؤلفون في الفقه بهذا التصريح والجواز وراءه تقليداً له واقتداء به . وهو يُبطل هذه الفتوى بإبطال أدلتها التي أسندها بها صاحبها ، وهي (استعمال المسلمين ، ولم ينكر) فإن استعمال المسلمين أو عدم إنكارهم ، إذا تعارض مع الكتاب أو السنة ، كان ذلك الاستعمال باطلاً ، فإن المرجع في الجواز وعدمه هو كتاب الله وسنة الرسول : « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول » . وقد ظهر في الكتاب والسنة أن هذه أعمال تتساوى مع الكفر ومع عبادة الأصنام .وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « كل أمر ليس عليه أمرنا فهو ردّ » . ثم إن علماء المسلمين في كل عصر ، ما زالوا يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن مَن فعل ذلك ويقررون شريعة الإسلام في تحريم ذلك في مدارسهم ومجالس حفاظهم ، يرويها الآخر عن الأول والصغير عن الكبير » .
وبهذا يرينا كيف أن التقليد وترك الاجتهاد كان له أيضاً مدخل في تشويه العقيدة والإخلاص بإخلاص التوحيد لله ، وأن الطريق إلى تصحيح العقيدة هو الرجوع إلى الكتاب والسنة في كل عمل أو اعتقاد .
وقد رأى الإمام الشوكاني أن إخلاص التوحيد ، أو النطق بشهادة « أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله » على وجهها ، هو الطريق إلى أداء العبادات ، ثم أداء الأعمال اليومية على وجهها بمراقبة الله فيها ، وأن المجتمع لا يمكن أن يستفيد من إيمانه إو إسلامه في حياته الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية ، إلا إذا كانت هذه الشهادة خالصة من مظاهر الشرك ، فهنا يمكن أن ينتفع الإنسان من هذه الشهادة ديناً ودنيا ، وأنه ما أخر المسلمين ، وقعد بهم عن الاستمرار في نهضتهم وعزتهم ، إلا تحريف هذه الشهادة ، وحيلولة مظاهر الشرك بينها وبين حلولها في القلب أو حلولها ، ولكن بزيغ وتشويه ، وأن هذه هي علة المسلمين اليوم ، والتي وراء كل جمود وتأخر وذلة .
وقد أخذت هذه الدعوة منه حيزاً كبيراً بحيث صار فيها في اليمن إماماً ، كابن عبد الوهاب في الحجاز من قبل ، وابن تيمية في مصر والشام ، ولاقى من جرائها الكثير من المتعصبين ومن المقلدين ، ورُمِي بالنصب من أجلها ، ومن أجل دعوته إلى الاجتهاد والرجوع بالتشريع إلى طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين.
وفاته : توفي الإمام الشوكاني رحمه الله ليلة الأربعاء ، لثلاث بقين من شهر جمادى الآخرة ، سنة ( 1250ه / 1834م )، عن ستٍّ وسبعين سنة وسبعة أشهر ، وصلِّي عليه في الجامع الكبير بصنعاء ، ودُفن بمقبرة خزيمة المشهورة بصنعاء ، رحمه الله تعالى رحمة واسعة ، وجزاه عنا كل خير .
المصادر:1- بحث للدكتور إبراهيم إبراهيم هلال 2-موقع مختص بعائلة الشوكاني بتصرف.
| |
|